واشنطن- لم يُفاجَأ الخبراء الإستراتيجيون في واشنطن بقرار الرئيس جو بايدن ضرب 85 هدفا داخل العراق وسوريا فجر السبت، ردا على مقتل ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة “برج 22” شمال شرق الأردن قبل أيام.
وجاءت الضربات -التي أكدت الإدارة الأميركية أنها البداية فقط- بمثابة مخرج لإدارة بايدن بدل المطالبات بضرورة توجيه ضربات داخل العمق الإيراني، وهو الأمر الذي قد يدفع لإشعال حرب أوسع.
لكنها من ناحية أخرى كانت الضربات الأكثر اتساعا من أي إجراء سابق اتخذته واشنطن حتى الآن، ضد الجماعات التي تتهمها بزعزعة استقرار المنطقة وبتلقي التمويل والتسليح من إيران.
وتأمل واشنطن أن يكون لهذه الضربات تأثيرا في منع المزيد من الهجمات على الأميركيين، وعلى قواعدهم في المنطقة، أو الهجمات التي تشنها جماعة الحوثيين في اليمن ضد بعض السفن التجارية في جنوب البحر الأحمر، وسط شكوك واسعة في ذلك.
ولإلقاء الضوء على هذه التطورات وما تعنية للمنطقة وللولايات المتحدة، حاورت الجزيرة نت وليام ويشسلر، مدير برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي بواشنطن، وهو أيضا مدير مبادرة للتكامل الإقليمي ودعم جهود التطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب.
وشغل ويشسلر سابقا منصب نائب مساعد وزير الدفاع للعمليات الخاصة و”مكافحة الإرهاب”، كما عمل خلال إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون كمستشار خاص لوزير الخزانة لشؤون العقوبات الأجنبية ومكافحة غسل الأموال. وقد شغل سابقا أيضا منصب مدير التهديدات العابرة للحدود في مجلس الأمن القومي، وقبل ذلك كان مساعدا خاصا لرئيس هيئة الأركان المشتركة.
-
هل تعتقد أن الولايات المتحدة فشلت في ردع العناصر المدعومة من إيران؟
بالتأكيد فشلت. وبحكم ما جرى لم يتم ردعهم عن القيام بهذه الهجمات، ولو تحقق ذلك لما قاموا بشن أكثر من 170 هجوما من هذا القبيل ضد القوات الأميركية خلال الأشهر الأخيرة.
وقد فشلت لأن إيران ووكلاءها لديهم نمط طويل الأمد، يتمثل في دفع خطوات التصعيد إلى أقصى حد يمكنهم الوصول إليه ببطء وثبات لمعرفة ما إذا كان سيتم مواجهتهم، وعندما لا يواجهون أي مقاومة، يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك.
إن ما يحاولون القيام به هو التأسيس لحدود وقواعد تعتبرها الأطراف الأخرى والمجتمع الدولي مقبولة بحكم الأمر الواقع، وهو ما سيعودون إليه عندما لا يواجهون مقاومة، وقد نجحوا في هذه الإستراتيجية.
المثال الذي أستخدمه هو أن هناك دولة واحدة، ودولة واحدة فقط في العالم بأسره، تقدم أسلحة دقيقة ومتقدمة إلى جهات فاعلة غير حكومية، وتأمر تلك الجهات باستخدام تلك الأسلحة عبر الحدود الدولية بنية ضرب المدنيين.
إيران وحدها هي التي تفعل ذلك، لكنها تفعله بشكل روتيني في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وقد قبل بقية العالم ذلك منها لفترة طويلة كما لو كان سلوكا طبيعيا، بدلا من إدراك مدى عدم طبيعية هذا السلوك على الإطلاق.
لقد حاولت واشنطن التعامل مع هذا السلوك بطرق أخرى، واعتقدت أنه يمكن التعامل مع هذا التصعيد وضبطه في حدود مقبولة، وأن هذه الهجمات ربما لم تكن كبيرة، حيث لم يكن يُقتل أميركيون.
الوضع كان مشابها جدا لعملية التفكير التي طبقها الإسرائيليون مع حماس، فقد كان الكثيرون في إسرائيل يعتقدون أن مشكلة حماس تحت السيطرة طالما أن القبة الحديدية موجودة لحمايتهم، لكن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أثبت أن التفكير كان خاطئا، وأن المشكلة على أرض الواقع لم تتم إدارتها على الإطلاق.
وبالمثل، طالما أن الهجمات على الجنود الأميركيين كانت بلا ضحايا، فقد كان هناك مسؤولون في إدارة بايدن، وإدارة دونالد ترامب من قبلها، قد اعتقدوا بثقة أن المشكلة يمكن إدارتها والتعامل معها، لكن عندما يُقتل 3 جنود، فأنت تعرف أن هناك مشكلة.
-
لكن البيت الأبيض قال إن “الهجمات كانت ناجحة جدا”، كيف تعتقد أنهم قاموا بقياس نجاحها أو فشلها بهذه السرعة؟
هناك نجاح تشغيلي يأتي مما تقوله واشنطن من أن الضربات كانت ناجحة، وأن العناصر التي تم استهدافها قد أصيبت بشكل صحيح، بمعنى أنه قد حدث مستوى الضرر الذي أرادوا القيام به بقدرات الخصم، وهذا تحليل على المستوى التكتيكي للعمليات العسكرية من المهم جدا فهمه، لأنه في كثير من الأحيان تحاول القوات ضرب هدف ما لكنها تخطئ بالوصول إليه.
وهناك نجاح على المستوى الإستراتيجي يتعلق بأي مدى غيرت الهجمات عملية صنع القرار لدى إيران وحلفائها في العراق وسوريا، وهل ردعتهم هذه الهجمات، ولا أعتقد أن أي شخص يستطيع إصدار هذا الحكم حتى الآن.
-
أكد البيت الأبيض أن هذه الهجمات ما هي إلا البداية فقط، إلى متى ستستمر باعتقادك؟
ستستمر طالما بقيت هناك مخاطر من إيران وحلفائها، يجب ردعهم عن مهاجمة الأميركيين، ويجب أن يكون هناك خط أحمر، وهو أن الأميركيين لن يتعرضوا للهجوم في هذه المنطقة.
ويمكن للولايات المتحدة إعادة التذكير أن المرة الأخيرة التي سارت فيها إيران في طريق التصعيد هذا كانت النتيجة مقتل الجنرال قاسم سليماني، ثم تلتها بضع سنوات من عدم قيام إيران بهذا النوع من السلوك التصعيدي. إذا أرادت إيران أن تنال نفس النتيجة السابقة فعليها الاستمرار في المسار نفسه.
ولا أعرف ما إذا كان سيتم ردعهم بعد يوم واحد من توجيه الضربات، فما يقولونه لا يبدو كذلك، بل يوحي بخلاف ذلك، لكن علينا الحكم بالأفعال وليس بالكلمات، والأمر متروك لهم حقا ليقرروا كيف يريدون الرد.
فإذا ردوا بمزيد من الهجمات على الأميركيين، فستستمر الضربات لبعض الوقت، وهذا مشابه لما يحدث مع الحوثيين في اليمن، هناك خط أحمر رسمته الولايات المتحدة فيما يتعلق بحرية الملاحة، وستستمر الضربات على البنية التحتية حتى يعودوا إلى سلوكهم السابق.
-
تؤكد الولايات المتحدة وإيران أنهما لا يريدان حربا أوسع، هل يستطيعان منع ذلك؟ أم أنهما يتحركان نحو مواجهة خطيرة؟
على الأرجح سيتمكنان من تجنب اتساع ساحة المواجهة تجاه حرب بينهما، فكلا الطرفين يشترك في هدف تجنب الحرب إلا إذا اتخذ أحدهما قرارا متعمدا يدفع بهذا الاتجاه. وحتى الآن لا يوجد دليل على أن واشنطن أو طهران لديهما الرغبة بذلك، ولكن بمجرد أن تبدأ الهجمات والهجمات المضادة يمكن أن تقع حوادث، ولذا علينا أن نكون حذرين للغاية بشأن ما يقوم به الجانبان، لتحقيق هدفهما في منع وقوع حرب إقليمية أوسع.
أعتقد أن الهجمات الأميركية الأخيرة تحاول وضع خطوط حمراء لإيران وللمليشيات التابعة لها، وتهدف لأن تفهم إيران أن عليها التحكم في وكلائها، وطالما أنها لا تُشن هجمات على أهداف أميركية، فلا يوجد سبب لنا للهجوم داخل إيران. لذلك علينا الانتظار بعض الشيء لنرى ما ستفعله، أما إذا قُتل المزيد من الجنود الأميركيين غدا، فأعتقد أن ذلك سيغير الوضع تماما.
إدارة بايدن واضحة جدا، وتحاول توصيل رسالتها دبلوماسيا وبشكل غير مباشر من خلال عدة قنوات، ولكنها أيضا تبعث رسائل بهجماتها، والأمر متروك لإيران لتقرر ما تريد.
ومن جانب آخر، للولايات المتحدة العديد من المصالح في الشرق الأوسط، وهناك أسباب أخرى لا علاقة لها بالتوترات الأخيرة، قد تجعلها تهاجم إيران مباشرة.
-
لماذا اختارت إدارة بايدن شن هجماتها باستخدام قاذفات “بي1” (B1) رغم وجود عشرات آلاف الجنود في الكثير من القواعد العسكرية بالمنطقة؟
هناك سببان لاستخدام هذا النوع من القذائف:
- أحدهما وظيفي تكتيكي، يتمثل في قدرة القاذفة “بي1” على حمل أسلحة أكثر بكثير من القاذفات المقاتلة الموجودة في المنطقة، أو مقارنة بالطائرات دون طيار، أو غيرها.
- والسبب الآخر إستراتيجي، بمعنى أن تفهم إيران ووكلاؤها، أن قدرة الولايات المتحدة على الانتقام لا تعتمد على القوى التي تمتلكها في المنطقة فقط.
لا يجب ترك إيران تعتقد أن تحرك حاملة طائرات والمجموعة القتالية المرافقة لها بعيدا عن شواطئها -وهو ما يحدث بطريقة روتينية- يعني صرف نظر واشنطن عن شن هجمات على إيران، بما قد يوحي لها بإطلاق العنان لاستهداف الأميركيين. فقاذفة “بي1” تُظهر بوضوح شديد أن أعضاء وقادة الحرس الثوري الإيراني ووكلاءهم وشركاءهم سيكونون عرضة لهجمات في أي يوم من الأيام، إذا استمروا في تهديد الأميركيين.
-
هل ستغير الهجمات الأخيرة من طبيعة مهام وأهداف تواجد آلاف الجنود الأميركيين في قواعد عسكرية بالشرق الأوسط؟
أحد أسباب حدوث هذه الهجمات هو إيمان إيران بأنه توجد فرصة في هذا العام 2024 لتحقيق هدفها الطويل الأمد، المتمثل بطرد الولايات المتحدة من المنطقة، فالإيرانيون يقرؤون الصحف الأميركية، ويدركون أن هناك نقاشات داخل إدارة بايدن حول المدة التي يجب أن يبقوا فيها في سوريا والعراق.
كما أن الحكومة العراقية بدأت محادثات رسمية مع الولايات المتحدة حول مستقبل قواتنا هناك، فربما اعتقدوا أنه من خلال التصعيد والعنف يمكن تسريع وتشجيع مغادرة أميركا للمنطقة.
لكن الأمر على العكس تماما، ويعكس سوء قراءة إيرانية للواقع السياسي الأميركي، فاحتمالية أن يتخذ الرئيس بايدن قرارا بسحب القوات من سوريا أو العراق انخفض إلى ما يقرب من الصفر في الوقت الحالي.
فقبل الهجمات كان هناك احتمال للسير في مسار سحب القوات الأميركية من سوريا أو العراق، وهكذا، فإن إستراتيجية إيران قد فشلت في اللحظة التي قتلوا فيها 3 أميركيين.
الأمر متصل أيضا بإسرائيل، فقد رأى القادة في طهران نقطة ضعف متمثلة باستياء الكثيرين في العالمين العربي والإسلامي من الولايات المتحدة بسبب تحالفها مع إسرائيل وما تقوم به في غزة.
وعند قراءة استطلاعات الرأي يمكنهم أن يروا أن الكثيرين لا ينظرون بشكل أسوأ في الولايات المتحدة فقط، بل ينظرون أيضا بشكل أفضل لإيران، فهم يرون أنها تدعم الجماعات المعادية لإسرائيل مثل الحوثيين وحماس وحزب الله، وأولئك الذين يواجهون إسرائيل.
ومن ناحية أخرى، ترى طهران إمكانية وصول دونالد ترامب إلى السلطة في نهاية العام، وهم يعرفون أنه تحدث لفترة طويلة عن الانسحاب من الشرق الأوسط، لذلك بالنسبة لي، يبدو أنهم اعتقدوا أن هذا السياق أتاح لهم فرصة لزيادة العنف في جميع الجبهات، كما أنه يزيد من فرصة وكلائهم الذين لديهم القدرة على التصرف بمفردهم لاتخاذ نفس القرار.
لكن، من المحتمل أن يكون لهذا تأثير معاكس تماما، إذا كان هدفهم هو أن تغادر الولايات المتحدة العراق وسوريا.
-
كيف تقيّم موقف بايدن وحساباته السياسية في هذا العام الانتخابي، وما المخاطر عليه بعد اتخاذ قرار شن الهجمات؟
يحاول بايدن التوازن بين عدة أشياء، أهمها:
- توازن خارجي بين الحاجة إلى استعادة الردع والرغبة في عدم الانزلاق نحو حرب إقليمية.
- وهناك أيضا توازن محلي بين العديد من الآراء المختلفة التي تعبر عن كل ألوان الطيف السياسي.لكنني أود أن أحذر أيضا من عدم فهم السياسة الأميركية، فنادرا ما تكون قضايا السياسة الخارجية قضايا مهمة في الانتخابات الرئاسية.
وعندما يتعلق الأمر بأزمة، قد يكون الأمر مهما فقط لمجموعات صغيرة من الأميركيين الذين يهتمون حقا بقضية ما، فالكوبيون في ميامي يهتمون حقا بسياستنا تجاه كوبا، وهناك العديد من الأميركيين يهتمون حقا بإسرائيل، وهناك الكثيرون يهتمون بفلسطين، لكن عندما تنظر إلى قضايا السياسة الخارجية في موسم الانتخابات بعمق، فنادرا ما يكون لقضايا السياسة الخارجية تأثير كبير على المستوى الوطني.
-
هل تعتقد أن هذه الهجمات ستؤثر على مسار التفاوض بين حماس وإسرائيل برعاية أميركية، بهدف إطلاق سراح المحتجزين مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار وتسهيل دخول المساعدات لسكان قطاع غزة؟
إن أحد الأسباب التي جعلت حركة حماس تقوم بهجومها في 7 أكتوبر هو إفساد المناقشات بين إسرائيل والسعودية، والتكامل الإقليمي الذي كان جاريا.
لا أعتقد أن الهجمات في العراق كانت مرتبطة بمسار التفاوض بين إسرائيل وحماس، لكن أود أن أحذر مما أتخيله، أنهم يرغبون بإفسادها بإيحاء من طهران، فهم لا يريدون إبرام صفقة، ولا يريدون أن تقبل حماس بوقف مؤقت للقتال وإخراج المحتجزين، لأنهم يفضلون استمرار الحرب، وهذا حقا شيء فظيع ومرعب.
ينبع نفوذ إيران من أسلحتها، والكثير من هذه الأسلحة في غزة مصدرها إيران، كما أن الأمر يتعلق أكثر بخلق بيئة تساعد حماس، فقد طلبت حماس حرفيا من بقية قوات المقاومة الانضمام إلى الحرب، لأنه إذا كانت الحرب بين حماس وإسرائيل فقط، فإسرائيل ستكسب هذه الحرب لأنها الطرف الأقوى وبكثير.
أما إذا كانت حربا بين إسرائيل وجميع القوى الأخرى، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي قد تمكن حماس من الصمود، ولذا تريد الحركة أن ترى بقية هذه المعارك مستمرة، هذا هو النفوذ.
ولكن الحقيقة هي أن الفلسطينيين في غزة هم الذين يعانون بسبب القرارات التي تتخذها حماس والقرارات التي تتخذ في طهران. كما أن قادة حماس وقادة الحرس الثوري الإيراني هم أقل الأشخاص الذين يهتمون على ما يبدو بالشعب الفلسطيني.