ينشر موقع الجزيرة نت ملفا متكاملا بعنوان “محور الممانعة.. الفكرة وحدودها” يتناول بشكل مفصل فكرة المحور وإرهاصات التأسيس وتاريخ التكوين وسياقاته.
كما يتناول الملف أطراف المحور التي تدور في فلكه وترتبط بنواته، والفضاءات التي تعمل فيها، ويصف حالات الاستقطاب والتنافر بين مكوناته ومحيطها.
ونبحث في الملف علاقة المحور بالمقاومة الفلسطينية التي تخوض في قطاع غزة -وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- معركة “طوفان الأقصى” ضد العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 110 أيام.
سينشر الملف كسلسلة على حلقات، نبدؤها بالحديث عن إيران كنواة لهذا المحور، ثم نتحدث عن سوريا الحلقة الذهبية فيه، ثم نناقش كيف وصل الحوثي إلى البحر؟ وفي الحديث عن حزب الله سنتناول إستراتيجية الهجوم ضمن قواعد الاشتباك، وفي العراق المليشيات التابعة للمحور من التأسيس إلى عملية الطوفان.
رابط الحلقة الأولى: إيران.. فكرة المحور وحدودها
رابط الحلقة الثانية: الفكرة وحدودها (2): سوريا الحلقة الذهبية
رابط الحلقة الثالثة: الفكرة وحدودها (3): كيف وصل الحوثي إلى البحر؟
رابط الحلفة الرابعة: الفكرة وحدودها (4) حزب الله والضرب ضمن قواعد الاشتباك
المليشيات المسلحة في العراق: من التأسيس وحتّى هجمات الطوفان
أحمد مولانا
في اليوم التالي لوقوع مجزرة المستشفى المعمداني في غزة بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي راح ضحيتها نحو 500 شهيد، بدأت القواعد الأميركية في العراق وسوريا تتعرض لهجمات بطائرات مسيرة وصواريخ اقترب عددها بحلول منتصف يناير/كانون الثاني الماضي من 140 هجوما.
تبنى هذه الهجمات ما يعرف بـ”المقاومة الإسلامية في العراق”، وهي لافتة جامعة تضم خمس جماعات بارزة تشمل: “منظمة بدر”، و”كتائب حزب الله العراقي”، و”عصائب أهل الحق”، و”حركة النجباء”، و”كتائب سيد الشهداء”، فضلا عن جماعات واجهة، تخفي مسؤولية الجماعات الكبرى عن الهجمات.
يحاول هذا المقال الإجابة عن الأسئلة التالية: متى وكيف تشكلت تلك الجماعات؟ ومن هم قادتها؟ وما هي علاقتها بإيران؟ وما هو موقفها من الولايات المتحدة الأميركية؟ وما هو هدف هجماتها هذه؟
تاريخ من الانشقاقات
تعود جذور أغلب الجماعات المنضوية ضمن “المقاومة الإسلامية في العراق” إلى “حزب الدعوة” والكيانات التي خرجت من رحمه، مثل: “التيار الصدري” و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية”.
تأسس حزب الدعوة عام 1957 على يد المفكر محمد باقر الصدر، بدعم من المرجع الشيعي محسن الحكيم، في مواجهة المد القومي والشيوعي.
ومع وصول “حزب البعث” إلى حكم العراق عام 1968، اصطدم مع حزب الدعوة، فأفتى محمد باقر الصدر بحرمة الانتماء إلى حزب البعث.
لاحقا، أيد باقر الصدر الثورة الإيرانية، إلا أنه اختلف مع نظرية “ولاية الفقيه”، ورأى أن ولاية قائد الثورة آية الله الخميني تشمل حدود سيطرته في بلده فقط.
ومع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، أعدم نظام صدام حسين محمد باقر الصدر، وردا على ذلك، وفي العام ذاته، أسس حزب الدعوة أول معسكر تدريبي له في إيران باسم “معسكر الصدر”.
ولكن الحزب لم يتمكن من الحفاظ على وحدة صفوفه، فانشق عنه عام 1982 محمد باقر الحكيم، نجل المرجع محسن الحكيم، وأسس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية”، وشكل ذراعا عسكريا للمجلس باسم “فيلق بدر” ليقاتل بجوار القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي.
توزع أنصار حزب الدعوة بين سوريا وأوروبا وإيران، في حين قاد محمد محمد صادق الصدر أتباعه داخل العراق، ثم عقب اغتياله عام 1999 تولى نجله مقتدى الصدر قيادة التيار الصدري، وتبلورت بذلك ثلاثية شيعية تضم حزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
حدثت تطورات متلاحقة في بنية المكونات الشيعية مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إذ عاد كوادر حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية إلى بغداد ضمن تحالف مع واشنطن ضم قطاعا واسعا من المعارضة العراقية في الخارج، في حين أسس التيار الصدري “جيش المهدي” الذي انخرط في مواجهات مع قوات الاحتلال الأميركي عام 2004.
لاحقا، وقع قتال بين جيش المهدي وقوات الحكومة العراقية في عهد نوري المالكي، رئيس الوزراء المنتمي لحزب الدعوة، ثم أصدر الصدر قرارا عام 2008 بتجميد نشاط جيش المهدي بحجة العمل على إبعاد العناصر الطائفية من صفوفه.
خلال الفترة الممتدة من 2003 إلى 2014، برزت عدة قضايا أدت إلى انشقاقات في المكونات الشيعية الثلاثة الكبرى، فخرجت من رحمها العديد من الجماعات، وهو ما تزامن مع رغبة طهران في العمل مع حلفائها على شكل شبكات، مما يتيح لها الإمساك بخيوط اللعبة، وتقسيم العمل، وتجنب “وضع البيض كله في سلة واحدة”، وهو تكتيك يربك الخصوم، ويجعلهم أمام متاهة من الكيانات التي لا تنتهي، مما يصعب عليهم تعقبها.
ومن أبرز القضايا التي أدت إلى هذه الانشقاقات:
- الموقف من الاحتلال الأميركي.
- حدود العلاقة مع إيران بناء على الموقف من نظرية ولاية الفقيه.
- الخلافات الشخصية على القيادة والنفوذ.
ولقد أدت سيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية” على مدينة الموصل وتقدمه نحو بغداد، إلى صدور فتوى من المرجع الشيعي علي السيستاني تأسس بموجبها “الحشد الشعبي” عام 2014.
واستغلت المليشيات العراقية الفرصة كي تؤسس من بين أعضائها ألوية ضمن الحشد تخضع لإشرافها، رغم تبعية الحشد رسميا لرئيس الوزراء العراقي الذي يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأبرز هذه الفصائل:
منظمة بدر
نشأت من رحم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. ففي عام 2003 اغتيل مؤسس المجلس محمد باقر الحكيم، وانخرط المجلس في العملية السياسية التي دشنتها واشنطن، ودمج العديد من كوادره العسكرية التابعة لفيلق بدر في وزارة الداخلية العراقية الجديدة. ثم لاحقا، وبحلول عام 2004، تغير اسم الفيلق إلى “منظمة بدر”.
أدت منظمة بدر دور الجماعة الوسيطة بين حزب الدعوة والمليشيات اللاحقة، فالعديد ممن قدموا إليها من حزب الدعوة قد انشقوا عنها لاحقا وأسسوا جماعاتهم الخاصة، مثل: أبي مهدي المهندس مؤسس “كتائب حزب الله”، وأبي مصطفى الشيباني مؤسس “كتائب سيد الشهداء”.
ومع وفاة قائد المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عبد العزيز الحكيم عام 2009، وتولي الشاب عمار الحكيم القيادة، حدث فراغ قيادي أدى إلى انشقاق هادي العامري عام 2012، فتحالف مع رئيس الوزراء نوري المالكي، حيث شغل منصب وزير النقل.
لدى منظمة بدر عشرة ألوية كاملة داخل “الحشد الشعبي”، تتمتع بعلاقة وثيقة مع “الحرس الثوري” منذ حقبة وجود قادتها في إيران.
ولديها ذراع سياسي يضم عشرات الأعضاء في مجلس النواب ضمن كتلة “الفتح”، ولديها قناة فضائية تدعى “الغدير”.
ومع ذلك، فهي الأقل صخبا في تبني تصريحات أو هجمات معادية للقوات الأميركية، وهو ما يعزى إلى وجود نشاط سياسي لها ضمن بنية الدولة العراقية تريد الحفاظ عليه وتوسيعه دون صدام مع واشنطن.
كتائب حزب الله
أسسها جعفر إبراهيم الشهير بأبي مهدي المهندس عام 2005، وهو قيادي مخضرم اكتسب خبرة من تجربته في حزب الدعوة، ثم قيادته لفيلق بدر قبل حقبة قيادة هادي العامري.
تولى المهندس مسؤولية التنسيق بين المليشيات العراقية والحرس الثوري، وأصبح المساعد الأبرز في العراق لقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني.
ولقد أضاف المهندس ثلاثة ألوية من كتائب حزب الله العراقي إلى الحشد الشعبي، وتولى منصب رئيس أركان الحشد، وتولى مساعده أبو زينب اللامي منصب رئيس جهاز أمن الحشد.
ومنذ عام 2015، سيطرت كتائب حزب الله تحت مظلة الحشد الشعبي، على منطقة “جرف الصخر” جنوب غرب بغداد، من تنظيم الدولة الإسلامية، وغيرت اسمها إلى “جرف النصر”، وهجرت سكانها، وأقامت فيها مجمعا للتصنيع العسكري ومعسكرات تدريب محظور دخولها على أي قوات أخرى بما فيها الجيش العراقي.
وتتعرض قواعد الكتائب في جرف الصخر في العراق، وفي البوكمال بسوريا التي تنتشر فيها قواتها، لغارات أميركية متكررة ردا على هجماتها ضد القواعد الأميركية، كما تتعرض أحيانا لغارات إسرائيلية.
أدى هجوم نفذته الكتائب في ديسمبر/كانون الأول 2019 على قاعدة عسكرية في كركوك بشمال العراق، إلى مقتل مقاول أميركي، فكان الرد الأميركي تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب مطلع عام 2020 باغتيال المهندس رفقة قاسم سليماني قرب مطار بغداد. وخلف المهندس في قيادة أركان الحشد عضو الكتائب عبد العزيز المحمداوي “أبو فدك”، وهو مدرج على قوائم الإرهاب الأميركية.
للكتائب ذراع سياسي يدعى “حركة حقوق”، ويقوده عضو مجلس النواب حسين مؤنس، كما تملك الكتائب جماعات واجهة مثل “عصبة الثائرين” التي تبنت في مارس/آذار 2020 هجوما على “معسكر التاجي” أودى بحياة جنديين أميركيين وجندي بريطاني، ولديها قناة “الاتجاه” الفضائية، فضلا عن مؤسسات للخدمات الاجتماعية والثقافية، وتدير نشاطا كشفيا من خلال “جمعية كشافة الإمام الحسين”.
عصائب أهل الحق
تأسست عام 2005 إثر انشقاق الشقيقين قيس وليث الخزعلي وأكرم الكعبي عن التيار الصدري، لكنهم خلافا لمنظمة بدر، اختاروا قتال قوات الاحتلال، فألقى الجيش الأميركي القبض على قيس وليث لضلوعهما في حادث اختطاف ثم قتل 5 جنود أميركيين من مبنى محافظة كربلاء عام 2007، ولكنه أطلق سراحهما عام 2010 ضمن عملية تبادل للأسرى.
بعد الانسحاب الأميركي من العراق، عملت العصائب على تشكيل ذراع سياسي يتيح لها التغلغل في بنية النظام السياسي، فشكلت كتلة “الصادقون” التي فازت في انتخابات عام 2014 بمقعد واحد، ثم ارتفعت حصتها في انتخابات عام 2018 إلى 15 مقعدا. ويشغل حاليا عضو العصائب نعيم العبودي منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي في العراق.
عسكريا، دمجت العصائب ثلاث ألوية تابعة لها ضمن الحشد الشعبي، لتستفيد من تمويل الحكومة له، الذي بلغ 2.6 مليار دولار عام 2023. كما يعمل عدد من كوادرها في جهاز المخابرات العراقي. وللعصائب علاقات وطيدة مع الحرس الثوري الإيراني.
انخرطت العصائب في هجمات ضد القواعد الأميركية في العراق منذ عام 2019 للضغط على واشنطن لسحب قواتها، ولذا أعلنت وزارة الخارجية الأميركية تصنيف العصائب جماعة إرهابية عام 2020، مع إضافة قيس وليث الخزعلي إلى قائمة الإرهابيين.
حركة النجباء
أسسها أكرم الكعبي عام 2013 عقب انشقاقه عن عصائب أهل الحق، وركز الكعبي على الجانب العسكري والقتال في سوريا تحت إشراف الحرس الثوري.
لدى “النجباء” قوات داخل الحشد الشعبي تعمل باسم “اللواء 112″، كما تشرف على نشاط كشفي من خلال “جمعية الفتية النجباء الكشفية”.
يعد الكعبي أحد أبرز الصقور في انتقاد الوجود الأميركي في العراق، وهو أقل نظرائه اهتماما بالعمل النيابي؛ إذ لم يؤسس كتلة سياسية تعبر عن توجهاته.
ويجاهر بقربه من طهران، حيث أعلن عام 2015 أثناء لقاء مع “قناة السومرية” أنه مطيع لأوامر مرشد الثورة علي خامنئي، حتى لو أمره بالإطاحة بالحكومة العراقية أو القتال بأي دولة أخرى.
ولدى الكعبي علاقات مع روسيا، حيث زار موسكو في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 للقاء ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي الخاص بالشرق الأوسط ودول أفريقيا.
لدى النجباء العديد من جماعات الواجهة التي تستهدف القواعد الأميركية في سوريا والعراق، مثل جماعة “أصحاب الكهف” التي أعلنت عن نفسها عام 2019، وتبنت عشرات الهجمات بعبوات ناسفة على قوافل تموين القواعد الأميركية، فضلا عن قصفها السفارة الأميركية في بغداد عام 2020، وصولا إلى مهاجمة القواعد التركية في شمال العراق.
ونظرا لنشاطها المناهض هذا، فقد صنفت وزارة الخارجية الأميركية “النجباء” ضمن قائمة الجماعات الإرهابية عام 2019.
كتائب سيد الشهداء
أسسها أبو مصطفى الشيباني عام 2013 عقب انشقاقه عن كتائب حزب الله العراقي، وشاركت بشكل رئيسي في القتال في سوريا، ويقودها منذ عام 2014 “آلاء الولائي”، ويتبعها “اللواء 14” بالحشد الشعبي، ولديها جناح سياسي يقوده النائب فالح الخزعلي.
وهي تعد أكثر الجماعات نشاطا رفقة كتائب حزب الله، في شن هجمات ضد القوات الأميركية في سوريا، ولذا تعرضت قواعدها عدة مرات لغارات أميركية.
الموقف من الوجود الأميركي والعلاقة مع إيران
تسيطر الجماعات السالفة الذكر على العديد من المعابر الحدودية غير الرسمية بين العراق وسوريا، وتستخدمها لنقل المقاتلين والعتاد، حيث شارك ما لا يقل عن 10 آلاف مقاتل عراقي في الحرب في سوريا.
وتعمل هذه الجماعات وفق رؤية تهدف لشن هجمات غير قاتلة عادة على القوات الأميركية، البالغ عدد جنودها في العراق 2500 جندي، وفي سوريا 900 جندي، وذلك لدفعها نحو مغادرة منطقة “غرب آسيا” حسب التوصيف الإيراني.
كما تكثف هجماتها في سوريا نظرا لقلة القيود السياسية المفروضة على عملها هناك، ولتجنيب الحكومة العراقية قدر الإمكان الضغوط التي تتعرض لها من واشنطن، فأغلب الحكومات العراقية خلال العقد الأخير -باستثناء حكومة الكاظمي- جاءت من “الإطار التنسيقي” الذي تشارك فيه الأذرع السياسية لمنظمة بدر وعصائب أهل الحق.
تجاهر كتائب حزب الله وحركة النجباء باتباعها لولاية الفقيه، وهو ما يضعها في صدام مع التيار الصدري، كما توجد حساسيات مع المرجعية بالنجف، مما دفع آية الله علي السيستاني للإعلان على لسان ممثله الرسمي أحمد الصافي عام 2020 عن “ضرورة أن يكون العراق سيد نفسه، يحكمه أبناؤه؛ ولا دور للغرباء في قراراته”، في إشارة إلى التحفظ على ارتباط العديد من المليشيات العراقية بطهران.
حرب غزة وتصاعد الهجمات
عملت المليشيات المذكورة خلال السنوات الأخيرة ضمن “الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية”. ومع بداية الحرب في غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، صرح القائد الأبرز سياسيا هادي العامري في 10 من الشهر نفسه، بأنه إذا تدخلت الولايات المتحدة في الحرب ضد حركة “حماس”، فإن كافة المواقع الأميركية ستصبح عرضة للاستهداف.
بعدها توالت التصريحات من الأمين العام لـ”كتائب حزب الله” أحمد الحميداوي، وقائد “النجباء” أكرم الكعبي، وقائد “كتائب سيد الشهداء” أبي آلاء الولائي، بأن جماعاتهم ستشارك في القتال حال انخراط الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى فيه.
تحول التهديد إلى فعل عبر شن أول الهجمات بواسطة طائرات مسيرة هاجمت القوات الأميركية في قاعدة “عين الأسد” غرب الأنبار وقاعدة “حرير” في كردستان في 18 أكتوبر/تشرين الأول، أي في اليوم التالي لمجزرة المستشفى المعمداني بغزة، ثم امتدت الهجمات في 19 أكتوبر/تشرين الأول إلى قاعدة “التنف” وحقل “كونيكو” للغاز في سوريا، وصولا إلى شن هجمات بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة على إيلات وحيفا ومنصة كاريش للغاز في دولة الاحتلال.
عملت المليشيات العراقية تحت لافتة جديدة باسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، وذلك لتشتيت المسؤولية عن الهجمات، وإرباك القوات الأميركية، كما حرصت على تجنب إلحاق أضرار بشرية جسيمة بالجانب الأميركي، ولذا لم يسفر وقوع نحو 140 هجوما منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول إلى منتصف يناير/كانون الثاني عن سوى وفاة مقاول أمريكي واحد بأزمة قلبية وإصابة العشرات من الجنود الأميركيين أغلبهم بإصابات طفيفة.
هجوم على سفارة واشنطن
أدى الهجوم الصاروخي في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، على السفارة الأميركية في بغداد، إلى إثارة غضب واشنطن، فاتصل وزير الدفاع لويد أوستن برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لمطالبته باتخاذ إجراءات ضد منفذي الهجوم، وقرر السوداني إحالة الضباط والجنود المخولين بحماية المكان إلى التحقيق.
وأُعلن بعد أسبوع من الهجوم عن اعتقال منفذيه، والذين تبين أنهم تابعون لكتائب حزب الله العراقي وحركة “النجباء، وهو ما أثار التوتر بينهما وبين الحكومة العراقية.
وفي المقابل شن الجيش الأميركي عدة غارات على قواعد تابعة لهما في العراق وسوريا مما أسفر عن مقتل العشرات من عناصرهما، كما اغتال الجيش الأميركي في يناير/كانون الثاني 2024 مشتاق السعيدي القائد العسكري لحركة النجباء رفقه مساعده وعدد من حراسه في قصف جوي شرق بغداد.
كما فرضت وزارة الخزانة الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عقوبات على 7 من قادة “كتائب حزب الله” و”كتائب سيد الشهداء” وأدرجت الأخيرة ضمن قوائم الجماعات الإرهابية.
لقد ركزت بعض الجماعات المنضوية في “المقاومة الإسلامية في العراق” مثل منظمة “بدر” وعصائب “أهل الحق” على تعزيز وجودها داخل مؤسسات الدولة العراقية بينما ركزت حركة النجباء وكتائب “سيد الشهداء” على القتال في سوريا وتأمين الخط البري من إيران إلى العراق وسوريا، بينما مزجت كتائب حزب الله بين النهجين.
ولم تسع الجماعات المذكورة لخوض معركة واسعة ضد الوجود الأميركي في العراق وسوريا، وفي المقابل لجأت واشنطن لتنفيذ ضربات ضد منفذي ومخططي الهجمات التي تستهدف قواتها لترسيخ معادلات الردع، دون شن عمليات هجومية استباقية في ظل حرصها على تجنب اتساع الحرب في غزة إلى حرب إقليمية. ولكن، طرأ مستجد قلب المعادلة المذكورة.
منعطف جديد في الصراع
تغيرت معادلة الصراع بين المقاومة الإسلامية في العراق والجيش الأميركي على وقع الهجوم بطائرة مسيرة على قاعدة عسكرية أميركية على الحدود الأردنية السورية في 27 يناير/كانون الثاني 2024 والذي أسفر عن مقتل 3 جنود أميركيين وإصابة 40 آخرين.
فعقب الهجوم كشرت واشنطن عن أنيابها، وشرعت في تنفيذ غارات جوية وضربات صاروخية في 2 فبراير/شباط 2024 ضد مواقع تابعة لفيلق القدس ومقرات تابعة للمليشيات العراقية في سوريا والعراق، ضمن حملة تقول واشنطن إنها ستكون مطولة وستشمل عددا من البلدان.
لكن، في ذات الوقت ساهم الإنذار الأميركي المبكر قبل شن الهجوم في إخلاء المليشيات لمقراتها، وهو ما قلل من حجم الخسائر بين عناصرها.
فرضت ديناميكية التصعيد نفسها على كافة الأطراف مما دفعها لتغيير المواقف وتبادل المقاعد، فواشنطن التي تعمل على استعادة الردع وكبح جماح هجمات المليشيات العراقية دون الانخراط في حرب إقليمية، انخرطت في هجمات عسكرية موسعة، وأصبحت في قلب صراع يمتد من العراق وسوريا إلى اليمن، بينما كتائب حزب الله، الأكثر تصعيدا عادة، انعطفت بشكل حاد في محاولة امتصاص غضب واشنطن عبر الإعلان عن وقف هجماتها ضد القوات الأميركية.
بينما أعلن أكرم الكعبي قائد حركة النجباء مواصلة جماعته وبقية مكونات “المقاومة الإسلامية في العراق” شن الهجمات على القوات الأميركية لحين وقف إطلاق النار في غزة وانسحاب القوات الأميركية من العراق.
إن تعارض الأهداف بين واشنطن والمليشيات العراقية يفتح الباب لمزيد من التصعيد المتبادل وفق نهج “الفعل ورد الفعل” ضمن مشهد سائل يتغير وفق المستجدات، وهو ما قد يقود لمزيد من التصعيد، كما أنه في ذات الوقت قد يدفع طهران للضغط على الجماعات العراقية لامتصاص فورة الغضب الأميركي الحالية، والعودة لمعادلة ما قبل هجوم الأردن أو حتى وقف الهجمات بشكل كامل مثلما فعلت كتائب حزب الله.