القاهرة – يتصدر سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار عناوين البحث بشكل يومي بعد زيادة وتيرة السقوط الحر واتساع الفجوة بين السعر في السوقين الموازي والرسمي إلى مستوى غير مسبوق وسط ترقب لقرارات وإجراءات حكومية لا ينبغي التأخير أكثر من ذلك في إعلانها وتنفيذها بحسب خبراء ومحللي اقتصاد ورجال أعمال.
وقال متعاملون في السوق الموازي إن الدولار تجاوز 71 جنيها مقارنة بنحو 30.85 جنيها في البنوك المحلية بفجوة تصل إلى 130%، ومعظم هذه الزيادة حدثت بعد الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وعدم وجود خطط حكومية واضحة لحل الأزمة.
وتزداد الأزمة الاقتصادية سوءا في مصر بمرور الوقت، بحسب ما جاء في تقرير صادر عن مؤسسة كابيتال إيكونوميكس البحثية، مشيرة إلى تفاقم نقص النقد الأجنبي وزيادة حاجة مصر إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
المصريون يعضون أصابعهم
وينظر المصريون بعين القلق إلى نتائج زيارة فريق صندوق النقد الدولي إلى القاهرة لوضع اللمسات الأخيرة لاستئناف مباحثات برنامج الإنقاذ البالغ قيمته 3 مليارات دولار وزيادة القرض لمواجهة تداعيات الحرب في قطاع غزة على الاقتصاد المصري.
كما أن الحكومة تبدو عاجزة عن اتخاذ أي خطوة واضحة في سبيل ردم الهوة بين سعري الصرف وتحقيق بعض التوازن لاستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين واحتواء القلق المتنامي من زيادة الضغوط بشكل أكبر على الوضع الاقتصادي والاستقرار المجتمعي، بدون الوصول إلى اتفاق صندوق النقد الذي يعد بمثابة طوق النجاة؛ وهو ما يؤشر إلى تقلص خيارات مصر لمعالجة الأزمة.
مصر و”شعرة” صندوق النقد
ورغم توصل القاهرة إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على حزمة إنقاذ جديدة في ديسمبر/كانون الأول 2022؛ فإنها لم تحصل سوى على الدفعة الأولى من القرض الأساسي البالغ 3 مليارات دولار وقدرها 347 مليون دولار؛ بسبب شروط الصندوق المتعلقة بتحرير سعر صرف الجنيه وتسريع وتيرة بيع أصول الدولة.
وفي تشخيصه للأزمة الاقتصادية وعلاجها يعتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن “الفجوة الدولارية” هي السبب الرئيسي في الوصول إلى هذه الأزمة وبالتالي لا بد من تقليلها من خلال تقليص فاتورة الاستيراد بالدولار وزيادة الصادرات بالدولار وتشجيع الصناعة.
وخلال لقائه عددا من الإعلاميين، الأسبوع الماضي، اختزل السيسي أزمة بلاده في “شح الدولار”، واعتبر أن حلها سيكون هو الحل لكل المشاكل، قائلا: “لو حليت أزمة الدولار فيكي يا مصر ولا يهمني أي حاجة تاني”.
وحتى تحقيق هذا الأمر قال السيسي: “المطلوب أننا في مدة زمنية قليلة، نصل بمعدلات التصدير والتصنيع داخل مصر، بشكل يجعل حجم الدولار متاحا للإنفاق على الاستيراد”، أي زيادتها إلى 100 مليار دولار.
ويقدر متوسط فاتورة استيراد مصر من الخارج بنحو 90 مليار دولار مقابل صادرات إجمالية (سلعية وبترولية) بنحو 52 مليار دولار من بينها 35 مليار دولار صادرات سلعية، بمتوسط عجز 38 مليار دولار في الميزان التجاري، بدون احتساب أقساط الديون وفوائدها.
وتبلغ خدمة الدين المصري من أقساط وفوائد الديون حوالي 42.3 مليار دولار خلال العام 2024، وهي أعلى فاتورة على الإطلاق مطلوب سدادها في عام واحد، بعد أن قفز الدين الخارجي إلى نحو 165 مليار دولار واحتياطي نقدي لا يتجاوز 35.2 مليار دولار.
وفي الوقت الذي تشهد فيه موارد الدولة المصرية من النقد الأجنبي تراجعا ملحوظا نتيجة استمرار الحرب في قطاع غزة وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد مثل تراجع إيرادات قناة السويس، والسياحة بعد أن حققا أعلى مستوى العام الماضي فضلا عن انخفاض تحويلات المصريين بالخارج نحو 30%، وهي أهم مصادر النقد الأجنبي للبلاد.
وقال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، الجمعة، إن حركة الملاحة التجارية بين أوروبا وآسيا، والعابرة من قناة السويس المصرية، تراجعت خلال الشهرين الأخيرين بنسبة 42%.
وسجلت قناة السويس أعلى إيرادات في تاريخها خلال العام المالي الماضي الذي بدأ في يونيو/حزيران 2022 حتى نهاية يوليو/تموز 2023، بالغة 9.4 مليارات دولار.
وارتفعت إيرادات مصر السياحية إلى نحو 13.2 مليار دولار العام الماضي، وزادت أعداد السائحين الوافدين إلى 14.91 مليون سائح.
خيارات مصر للخروج من الأزمة
وفي شأن خيارات مصر لمعالجة المشكلة الاقتصادية أعرب الخبير المصرفي رئيس مجلس إدارة بنك بلوم السابق طارق متولي، عن اعتقاده أن “خيارات مصر باتت محدودة منذ اندلاع الأزمة في بداية عام 2022 وأن أي تأخير سيكون له تكلفة كبيرة اقتصاديا واجتماعيا”، مؤكدا أن المشكلة ليست في تعويم سعر صرف الجنيه وإنما في إتاحة الدولار في الأسواق.
وأوضح متولي في حديثه، للجزيرة نت، أن أزمة الدولار في مصر ليست جديدة بل هي قديمة وتتجدد بسبب مشاكل في هيكل الاقتصاد المصري منذ عقود تتمثل في أنه اقتصاد ريعي وليس إنتاجيا، ومصادر مصر الدولارية المعروفة وهي تحويلات المصريين بالخارج وإيرادات قناة السويس والسياحة، وكلها تتأثر بالعوامل الخارجية، وبالتالي نشهد تجدد أزمة نقص الدولار مع كل اضطراب سياسي في المنطقة.
وعليه يعتقد متولي أن الحل هو في التحول إلى اقتصاد إنتاجي قائم على الإنتاج والتصدير لتجنب أي تأثيرات خارجية أو تقليل أثرها، و”مع الأسف كل برامج الإصلاح الاقتصادي بما فيها برنامج عام 2016 نجح في تحقيق إصلاح مالي ونقدي وأخفق في الإصلاح الهيكلي”.
وأضاف الخبير المصرفي أن المشكلة الأخرى هي استبدال القائمين على إدارة الاقتصاد الاستثمار بالاقتراض على اعتبار أنه الأرخص والأسهل، لأن الاستثمار الحقيقي هو تنمية مستدامة لكن الاقتراض هو ديون وعبء على الاقتصاد.
وحدد الخبير متولي 3 خطوات للخروج من المشكلة الحالية؛ وهي الاستفادة من أصول الدولة الضخمة سواء ببيعها أو تأجيرها لإداراتها بشكل يعظم من حجمها ويزيد من إيراداتها، والاعتماد على الاستثمار بدلا من الاقتراض والتحول إلى اقتصاد إنتاجي وليس ريعيا، وأخيرا تغيير المسؤولين الحاليين عن إدارة الملف الاقتصادي بآخرين قادرين على خلق حلول واستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين.
وصفة “ساويرس” لحل الأزمة
بدوره حذر الملياردير المصري نجيب ساويرس في منشور له على موقع “إكس” من التأخير في إعلان الحكومة عن القرارات الملحة، ووصفه “بالكارثة”، وقال إن “التأخير في القرارات المطلوبة… مصيبة ستزيد من حجم الوضع الحرج الذي نحن فيه”.
التأخير في القرارت المطلوبة …مصيبة ستزيد من حجم الوضع الحرج الذي نحن فيه …واي محاولة لعلاج ازدواجية سعر الصرف بعرض الدولار بسعر اقل من السوق السوداء لن يحالفها النجاح فالصح هو البداية من سعر السوق السوداء و سينزل تدريجيا بعد وجود عرض فكل من لديه سوف يوافق علي البيع عبر القنوات…
— Naguib Sawiris (@NaguibSawiris) January 29, 2024
ولا يزال طريق البحث عن حل للأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر طويلا، إذ أعلن المنسق العام للحوار الوطني ضياء رشوان أن الأوضاع الراهنة للاقتصاد ستكون على رأس المرحلة الثانية من الحوار الوطني الذي استأنف أعماله وفعالياته.
وفي تصوره للمدة الزمنية لحل المشكلة الاقتصادية، قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في وقت سابق، إنه لا يتحدث عن 50 سنة أو 20 سنة، ولكن عن 6 سنوات فقط لتجاوز الأزمة الاقتصادية، واستعادة مسار النمو الذي كانت عليه البلاد منذ سنوات قليلة قبل الأزمة العالمية.
الحلول العاجلة
ووصف الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية لحزب التجمع هاني الحسيني أزمة الدولار في مصر “بأنها عرض وليس مرضا، وهي حصيلة سنوات من سوء الإدارة وتشخيص المرض ومعالجته بأدوات فاقمت من المشكلة الاقتصادية بدلا من تخفيفها أو حلها، والمسؤولون عن الملف الاقتصادي تأخروا كثيرا في وضع روشتة (وصفة) ناجعة لعلاج تلك المشاكل”.
وطالب الحسيني في تصريحات، للجزيرة نت، بوجود شفافية كافية سواء في عرض المشاكل أو حلها، ولكن حتى الآن تحمل الحكومة العوامل الخارجية مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو تبرير غير مقبول؛ إذ هناك أسباب أخرى، والحكومة هي جزء رئيسي منها، لكن يبدو أن السير مع صندوق النقد هو أسرع الحلول المؤلمة والصعبة لضمان تدفقات نقدية سريعة ولكنها غير مستدامة.
ورأى الحسيني أن معظم الحلول العملية الناجعة هي حلول متوسطة وطويلة الأجل في حين أن الوضع الحالي يتطلب حلولا عاجلة، وبالتالي الحكومة لم تترك لنفسها مساحة للاختيار، مشيرا إلى أن خفض الجنيه بشكل حاد أو تدريجي كلاهما يضر بالاقتصاد والمواطن بشكل أكبر، ولكن لا مفر منه، وهي خطوة اضطرارية وليست خطوة علاجية لأنه قبل اتخاذ مثل هذه الخطوة علينا أن نتذكر أن كل قرارات الخفض السابقة تبعها تخفيضات أخرى بسبب عدم جدواها اقتصاديا.
ووفقا للحسيني فإن الحلول لا تكمن في خفض قيمة الجنيه وإنما في تبني سياسات اقتصادية جديدة ومختلفة ترتكز على إحداث نهضة تنموية تدر عوائد دولارية ووقف الإنفاق على أي مشروعات لا تدر إيرادات مالية وزيادة الاحتياطي النقدي وتقليل الاقتراض وبالتالي تأتي خطوة خفض الجنيه بشكل تدريجي مع وجود رصيد كاف من العملة الصعبة وقبل ذلك استبعاد القائمين على الملف الاقتصادي بآخرين أكثر حنكة وواقعية.