القاهرة- تشهد أسواق الذهب في مصر حالة من الارتباك، بعد إلقاء السلطات القبض على عدد من كبار تجار الذهب، بذريعة التلاعب بالأسعار وإشعالها، فضلا عن اتهامهم بتخزين السبائك، والمسؤولية عن ارتفاع الدولار، بالإقبال على شرائه لتأمين احتياجات سوق الذهب من واردات الخامات الخارجية، فضلا عن الوفاء بالتزامات دولية لكبار التجار من نظرائهم بالخارج.
وفي المقابل، يرى تجار أن الحكومة تسعى بالحملة عليهم لتنشيط مبيعاتها من الشهادات البنكية ذات الفائدة المرتفعة، والتي لم تحقق الطلب المتوقع، بحسب مراقبين، نتاج تفضيل المصريين لحيازة الذهب عن الشهادات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن صندوق الاستثمار في الذهب الذي أطلقته الحكومة منتصف العام الماضي، لم يحقق بدوره النجاح المرجو، ما دفع الحكومة لإجراءاتها الأخيرة من أجل كبح جماح ذلك الطلب المتنامي في ظل تدهور قيمة العملة، حسب أولئك التجار.
تعاملات ضخمة
وبحسب تقرير رسمي صادر عن مصلحة الدمغة والموازين، تصل التعاملات في سوق الذهب إلى أكثر من 65 طنا سنويا، على رأسها المشغولات الذهبية التي تشكل أكثر من 90% من حجم هذه السوق.
ووفقًا لتصريحات صحفية لرئيس المصلحة، عبد الله منتصر، فإن 80% من حجم الذهب في مصر محلي الصنع، بينما يشكل المستورد 20% من حجم السوق، في وقت تنتشر بالسوق كميات كبيرة من الذهب المغشوش، وغير المدموغ.
وتزايد الإقبال على شراء الذهب بنسبة تتجاوز الـ30% خلال عام 2023 بالمقارنة بعام 2022، وفق بيانات رسمية، كملجأ آمن في ظل متاعب اقتصادية تعاني منها مصر، وتراجع أسعار صرف الجنيه.
وكان للسبائك والجنيهات الذهبية النصيب الأكبر من تلك الزيادة، فيما تراجع الإقبال على شراء المشغولات الذهبية، ليبلغ نحو 1.7 طن مقابل 5.5 أطنان من نفس الفترة من العام الماضي.
ويراوح سعر غرام الذهب عيار21، وهو الأكثر تداولا في مصر، مكانه صعودا وهبوطا منذ أيام حول 4 آلاف جنيه “130 دولارا بحسب السعر الرسمي، و60 دولارا تقريبا بحسب السوق الموازي للدولار”.
وتتهم الجهات الرسمية كبار تجار الذهب بالتلاعب في الأسعار، خصوصًا بعد وقف الاستيراد، وهي اتهامات أربكت السوق، ودفعت المحلات للإغلاق، ما أفقد آلاف العاملين مصادر رزقهم، بحسب مراقبين.
واتهمت جهات رسمية بعض كبار التجار باللجوء إلى تصدير كميات كبيرة من الذهب للخارج للحصول على الدولار، فيما يتهم تجارٌ الحكومة بالاتهام ذاته.
واعتبر تجار الاتهامات “محاولة للبحث عن كبش فداء لإخفاق الحكومة في حل أزمة الدولار، لا سيما أن كل عمليات استيراد وتصدير الذهب تتم عبر الأطر الرسمية”.
اتهامات مرسومة
ورفض سكرتير عام شعبة الذهب بالاتحاد العام للغرف التجارية نادي نجيب الاتهامات الموجهة لتجار الذهب، لأنه “لم يجر تقديم ما يثبت صحتها”.
وقال نجيب “الذهب سلعة عالمية شديدة الحساسية، وليست محلية، وهي مرتبطة بعدد من الاعتبارات، مثل أسعار النفط، والدولار، والبورصات العالمية، والأحداث الدولية، والحالة الاقتصادية لكل دولة”.
ويضيف نجيب أنه لا يمكن لتجار محليين، مهما كان وزنهم، في ظل سيادة آليات العرض والطلب، التحكم في الأسعار، نافيا في حديث للجزيرة نت مسؤولية التجار عن الارتفاعات القياسية للأسعار.
ورأى نجيب أن عدم نجاح تجربة صندوق الذهب في لعب دور مهم في سوق الذهب، بل وإقبال قطاعات عديدة على شراء الذهب كملاذ آمن في وقت الاضطرابات الاقتصادية، يقف وراء الحملة على تجار الذهب.
واستدرك المتحدث بالقول “لكن ربما تقف سوق الذهب وراء ارتفاع الدولار، في ظل إقبال التجار على شراء العملة الأميركية لتأمين احتياجات السوق من مستلزمات الإنتاج، وكذلك التعاملات مع الأسواق الدولية”، مشيرا إلى أن التجار هم أيضا ضحايا أزمة الدولار، لعجز البنوك عن الوفاء باحتياجاتهم من العملات الصعبة اللازمة لتأمين وارداتهم.
واعتبر أن الاتهامات الموجهة لتجار الذهب لن تنهي الأزمة، بل سترفع الأسعار، باعتبار أن إغلاق مئات المحلات والتوقف عن التسعير سيفاقم المشكلات بسوق الذهب عموما.
السر في الصندوق
بدوره، رأى عضو شعبة الذهب في الغرفة التجارية، منصور رفاعي، أن الحملة الأمنية على التجار تعكس الرغبة في التحكم بالسوق، والتي بدأت مع إنشاء صندوق الذهب في مايو/أيار الماضي، في ظل انعدام النجاحات المرجوة منه بالسيطرة على السوق، فضلا عن فشل الشهادات البنكية مرتفعة الفائدة في جمع مبالغ ضخمة، لاستمرار الرهان على الذهب كملاذ آمن.
وأضاف أن الحكومة تبحث دائما عن كبش فداء لإخفاقها في حل أزمة الدولار، مضيفا في حديث للجزيرة نت أنها “وجدت الحل في اتهام تجار الذهب بالمسؤولية عن ارتفاع أسعار الذهب والدولار”.
وسخر رفاعي بشدة من اتهام التجار بالمسؤولية عن ارتفاع الدولار، مؤكدا أن البنك المركزي متحكم بخروج الدولارات للمستوردين والتجار، وبالتالي فمن غير المنطقي تحميل التجار المسؤولية عن ارتفاع أسعار الذهب وتراجع قيمة الجنيه، مؤكدا أن الحملة على التجار ستفاقم الأزمة.
وأعرب المتحدث عن دهشته من ترديد اتهامات من نوعية “العثور على كميات من السبائك الذهبية والدولارات ومبالغ مالية كبيرة لدى التجار”، متسائلا باستغراب “بماذا سيحتفظ التجار غير هذه الأشياء؟”، معتبرا أن الاتهامات تضر بالاستثمار والسوق، فتوقف البيع وتصعب التسعير، حسب تعبيره.
وأرجع الخبير الاقتصادي، الأستاذ بكلية التجارة بجامعة الأزهر أحمد ذكر الله، الحملة على التجار للرغبة في إيجاد كبش فداء للفشل في حل أزمات تفاقمت بتراجع تحويلات المصريين بالخارج بنسبة تزيد على 30%، وانخفاض إيرادات قناة السويس بنسبة 42%، نتيجة الأحداث.
وكشف ذكر الله عن محاولات الحكومة الدخول لاعبا بسوق الذهب مؤخرا، فلجأت لطبع مليارات الجنيهات لشراء الذهب وتصديره، لمواجهة أزمة شح الدولار، وعندما اكتشف التجار فشل الرهان على بيع الذهب بالجنيه المصري المنهار، رفضوا التعاطي مع محاولات السيطرة على السوق، فردت الحكومة بالحملات المكثفة عليهم، في أسلوب ثبت فشله.
ورفض الخبير الاقتصادي اتهام التجار بالمسؤولية عن ارتفاع الدولار نتيجة إقبالهم على شرائه من السوق الموازية لتلبية وارداتهم من مستلزمات التشغيل، مؤكدا في حديث لـ”الجزيرة نت” أن 90% من صناعة الذهب محلية، فضلا عن لعب مصر دورا مهما في سوق الذهب الإقليمي والدولي، إذ غدت من الموردين المهمين لبعض أسواق الخليج، بحسب أرقام البنك المركزي، سواء من الذهب أو الأحجار الكريمة، باعتبارهما مصادر للدولار، وليس سببا في أزمته.
ولفت ذكر الله إلى أن الهجمة على التجار رد على إخفاق صندوق الذهب الحكومي في جمع مليارات الجنيهات، والعزوف عنه، وكذلك فشل المحاولات الرسمية للسيطرة على السوق، وإخفاق محاولات التخفيف من حدة الأزمة، بإجراءات مثل بيع الأصول والجنسية ومبادرة سيارات المصريين في الخارج، وكذلك شهادات البنوك ذات الفائدة المقدرة بـ27%.
وختم بالقول إن استمرار إقبال المصريين على شراء الدولار والذهب من السوق الموازية، كملاذ آمن، دفع السلطات للعب بورقة الضربات الأمنية، لعلها تعيد كبار تجار الذهب إلى الحظيرة.