بعد هدوء نسبي على جبهة الاحتجاجات في نهاية الأسبوع المنصرم، يخطط المزارعون لاتخاذ إجراءات جديدة للضغط بشكل أكبر على الحكومة الفرنسية من خلال حصار باريس بجراراتهم اعتبارا من الساعة الثانية بعد ظهر اليوم الاثنين ولفترة غير محددة.
وأعلن الاتحاد الوطني للنقابات الزراعية والمزارعين الشباب- النقابتين اللتين تمثلان غالبية المهنة على المستوى الوطني ـ عدم رضاهم بتصريحات المسؤولين وإصرارهم متابعة المظاهرات، مؤكدين أن حصار العاصمة سيكون في 8 نقاط بالطرق السريعة المؤدية إليها.
وأوضح رئيس الاتحاد الزراعي الأول في فرنسا أرنو روسو، في حديثه للجزيرة نت، أن “التعبئة لا تزال مستمرة، واتخذنا قرارا بالإجماع لمواصلتها”، مضيفا أن “الحكومة لم تهدئ غضب المتضررين، وتصريحات رئيس الوزراء الجديد غابرييل أتال ليست كافية، ولم تجب على كل مطالبنا”.
وتابع بالقول “لن يقتصر تحركنا على حواجز الطرق السريعة فقط، وإنما سيمتد إلى الدوارات الرئيسية وأمام المحال التجارية وغيرها للضغط إلى أقصى الحدود”.
ونتيجة لذلك، أفاد وزير الداخلية جيرالد دارمانان الأحد بأنه سيتم اتخاذ التدابير اللازمة، بما في ذلك “إجراء دفاعي لمنع أي عرقلة” من قبل المزارعين على الطرق السريعة.
وأضاف دارمانان أنه لا ينبغي على الشرطة “التدخل في نقاط الحواجز، بل تأمينها”، مؤكدا في الوقت ذاته على التدخل في حال حدوث أضرار أو هجمات من قبل الشاحنات الأجنبية واعتقال الذين لا يمتثلون للأوامر. كما أشار إلى أوامر الرئيس إيمانويل ماكرون بضمان عدم وصول الجرارات إلى باريس والمدن الكبرى لتجنب أي صعوبات.
ومن المتوقع تعبئة ما لا يقل عن 15 ألفا من رجال الشرطة والدرك في كل المدن الفرنسية، فضلا عن نشر العربات المدرعة في المطارات الإقليمية وأسواق التوريد الرئيسية، مثل سوق رونجيس الواقع بضواحي باريس.
وتعيش دول أوروبية على وقع احتجاجات يومية للمزارعين في ظل استياء واسع من ارتفاع تكاليف الإنتاج والمعايير البيئية والوقود والمنافسة غير العادلة، خاصة بعد ازدياد دعم المحاصيل الأوكرانية.
وقد أعرب المحتجون عن غضبهم المتزايد من خلال إلقاء النفايات الزراعية وروث الماشية ورزم القش أمام مقرات البلديات والمكاتب العامة وداخل مطاعم الوجبات السريعة والمحلات التجارية.
ومن ألمانيا إلى هولندا، مرورا بفرنسا وإيطاليا وحتى بلجيكا، اتحد العاملون في قطاع الزراعة للضغط على الاتحاد الأوروبي ومطالبته بإيجاد حلول فعالة لسياساته بشأن الضرائب على الديزل والحد من انبعاثات النيتروجين والحد من استخدام المبيدات الحشرية.
ثورة الفلاحين في أوروبا
واندلعت أول شرارة الثورة في هولندا عام 2019 عندما احتج المزارعون ضد خطة الحكومة للتقليل من أعداد الماشية لخفض انبعاثات النيتروجين الملوثة إلى النصف بحلول عام 2030.
وفي رومانيا وبولندا وبلغاريا وسلوفاكيا، بدأت بوادر السخط في الظهور بعد إدانة المنتجين المحليين المنافسة غير العادلة من أوكرانيا المتهمة بخفض أسعار الحبوب.
وعلى الرغم من استقالة وزير الزراعة البولندي في أبريل 2023، فإن الفلاحين أغلقوا نقاط العبور مع أوكرانيا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى أن توصلوا إلى اتفاق مع الحكومة يقضي بتقديم المساعدات لهم.
وفي ألمانيا، أعرب المزارعون عن رفضهم لخطة حكومة أولاف شولتس لزيادة الضرائب على الديزل الزراعي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قبل أن ينطلقوا في قوافل الجرارات لإغلاق الطرق في أنحاء البلاد.
ثم انتقلت وتيرة الغضب إلى بلجيكا حيث قطع المتظاهرون الجمعة أحد الطرق السريعة، وألقوا عدة كيلوغرامات من الحبوب أمام مقر حزب وزير الزراعة في بروكسل.
السياسة الزراعية الأوروبية
تقع السياسة الزراعية المشتركة الجديدة “سي إيه بي” (CAP) في قلب مطالب النقابات الزراعية، وهي عبارة عن مجموعة من القوانين واللوائح المعتمدة في بروكسل منذ عام 2021، والتي تم تطبيقها في الاتحاد الأوروبي منذ يناير/كانون الثاني 2023.
وتعتبر هذه السياسة جزءا رئيسيا من الصفقة الخضراء التي تهدف إلى وضع خارطة طريق للتحول البيئي في القارة الأوروبية للحفاظ على التنوع البيولوجي والأمن الغذائي.
كما تنص الصفقة التي تم تقديمها لأول مرة في عام 2019 ـأي قبل وباء كورونا (كوفيد-19) والحرب في أوكرانياـ وتنطبق موادها على أكثر من 6 ملايين مزارع في أوروبا، على تقليل تأثير الزراعة على البيئة وإزالة الكربون في القطاع.
كما يعارض المزارعون بشدة الصفقة الخضراء، لأنها تحظر استخدام المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب وستؤدي حتما إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية، فضلا عن معاهدة الاتحاد الأوروبي الجديدة التي تفتح الباب أمام استيراد المزيد من لحوم البقر من الأرجنتين والبرازيل، وهما من الدول التي لا تخضع لمعايير صارمة لرعاية الحيوان، وفق النقابات الزراعية.
كما تعرضت سياسة التجارة الحرة إلى وابل من الانتقادات، إذ تقول النقابات إنها تسمح بدخول واردات بأسعار رخيصة وبعيدة عن المعايير المطلوبة التي يتبعها المنتجون المحليون.
ويأتي ذلك بعد إعلان المفوض التجاري فالديس دومبروفسكيس قبل أيام رغبته في التوقيع على معاهدة التجارة الحرة “ميركوسور” بين الاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة لدول أميركا اللاتينية بحلول الصيف المقبل، وهي خطوة اعتبرها المعارضون “تشويها صريحا لمفهوم المنافسة”.
فرنسا مثالا
ويتقاسم العاملون في الريف الفرنسي المخاوف نفسها مع جيرانهم الأوروبيين بشأن ما يعتبرونه “قرارات غير عادلة وغير متوقعة” من قبل الحكومات.
ويخصص الاتحاد الأوروبي 30% من ميزانيته لقطاع الزراعة، وتعد فرنسا الدولة الأوروبية التي تستفيد أكثر من غيرها من المساعدات الزراعية حيث تلقت 9.5 مليارات يورو سنويا، فيما تلقت إسبانيا 6.9 مليارات يورو، وألمانيا 6.4 مليارات يورو.
وتظل هذه المساعدة مشروطة بالالتزامات البيئية، منها ترك جزء من الأرض بورا، أو تطبيق بنية تحتية زراعية إيكولوجية (مثل السياجات والبساتين والخنادق والبرك). وللحصول عليها، يجب استكمال عدد من الإجراءات الإدارية والفحوصات الميدانية الطويلة.
ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الديزل الزراعي بسبب إلغاء الدعم، مما يعني أن المزارعين سيكونون مرغمين على دفع مبلغ إضافي يصل إلى 47 مليون يورو سنويا لاستهلاك المياه.
ويعيش واحد من كل 5 مزارعين فرنسيين تحت خط الفقر، بسبب انخفاض الدخل بنسبة 40% في غضون 30 عاما الماضية، وفق المعهد الوطني للإحصاءات الاقتصادية.
ويتلقى العمال الزراعيون أدنى معاشات التقاعد، إذ يبلغ متوسط المعاش المباشر للفرنسيين 1510 يوروات شهريا، بينما لا يتجاوز معاش أولئك الذين أمضوا معظم حياتهم المهنية كمزارعين ألف يورو، وقد يصل أحيانا إلى 700 يورو فقط.
وتشير الدراسات إلى أن معدلات الانتحار بين المزارعين ارتفعت منذ ستينيات القرن الماضي، إذ قدرت أن هناك مزارعا واحدا ينتحر كل يومين في فرنسا. كما تزيد حالات الانتحار بين المزارعين بنسبة 31% عن بقية السكان، وفق وزارة الزراعة والضمان الاجتماعي.