ملف الأسرى.. معادلة التحرير وجبهة الصراع الطويل مع الاحتلال

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

يعد ملف الأسرى الفلسطينيين جبهة مواجهة مفتوحة مع الاحتلال منذ عهد الانتداب البريطاني وحتى اليوم، وذلك بوصفه عنوانا لصراع الإرادات مع المحتل الإسرائيلي والتزاما وطنيا بإدامة العمل المقاوم.

والفكرة الأساسية في الأمر هي وجود التزام وطني وأخلاقي بين عموم الشعب من جهة وبين من يخاطرون بأنفسهم في سبيل تحقيق حريته وصيانة كرامته من جهة أخرى، ومعادلة كهذه تعزز ديمومة العمل المقاوم، وتوصل رسالة تطمين وتشجيع إلى كل من يريد أن يسلك هذا الطريق.

ومضمون هذه المعادلة أن يكافئ الشعب هؤلاء ويحفظ صنيعهم، فيكرم شهيدهم ويتكفل بأهله من بعده ويداوي جريحهم ويبذل الغالي والنفيس لإنقاذ من يقعون في الأسر منهم ويرعاهم ويرعى أسرهم.

سلوك الاحتلال

بالمقابل، يسعى الاحتلال إلى كسر هذه المعادلة من خلال ضرب العلاقة بين الشعب ومقاوميه، وتحميلهم مسؤولية الجرائم التي يرتكبها بحق عموم الشعب، وتجريم وملاحقة أشكال التعاطف والإسناد للمقاومين، والتشدد في أي مفاوضات لتبادل الأسرى.

ويظهر هذا السلوك جليا في الخطاب الإعلامي للاحتلال، وفي منعه السلطة الفلسطينية من دفع رواتب الأسرى، وتضييقه على المؤسسات التي ترعى شؤونهم وشؤون الشهداء والجرحى، وفي مساعي إقرار قانون يقيد سقف الثمن الذي يمكن أن تدفعه أي حكومة إسرائيلية في صفقة تبادل للأسرى كما في مشروع قانون “الأسرى والمفقودين” الذي قدمه إلى الكنيست وزير الاستخبارات الأسبق أليعازر شتيرن عام 2018.

يذكر أن الاحتلال يعتمد إستراتيجية مشابهة في ما يخص أسراه الذين يقعون في قبضة غيره، إذ يوجد التزام سياسي وديني تاريخي باستعادة هؤلاء، وهو ما دفعه إلى إجراء 38 عملية تبادل للأسرى مع العرب والفلسطينيين منذ عام 1948 وحتى نهاية العام 2011 وفقا لما وثقته دراسة نشرتها وزارة الأسرى والمحررين الفلسطينية.

تقنين القمع

وضع الانتداب البريطاني الأسس القانونية والإجرائية لقمع الفلسطينيين ومصادرة حرياتهم، وفقا لما تذكره الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية، بدءا من قانون منع الجريمة الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 1920، والذي أعطى للحكومة سلطة احتجاز أو فرض قيود على الأفراد الذين تشعر أنهم قد يزعزعون السلام، ومرورا بقانون المسؤولية الجماعية عن الجريمة لعام 1921 وقانون منع الجريمة في المناطق القبلية والقرى لعام 1924 وقانون العقوبات الجماعية لعام 1926 الذي وضع الأساس القانوني للعقاب الجماعي في فلسطين الانتدابية.

كما أقرت سلطات الانتداب قانون “جرائم الفتنة” في أكتوبر/تشرين الأول 1929، وبعده بعامين أصدرت الحكومة البريطانية “مرسوم الدفاع عن فلسطين” لتوفير إطار قانوني لاتخاذ إجراءات حاسمة في حالة حدوث “حالة طوارئ” أخرى، حيث كانت للمفوض السامي سلطة الاستيلاء على الممتلكات واحتجاز الأفراد وترحيلهم أو محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، وغيرها من السلطات.

وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939 لجأت السلطات البريطانية مرة أخرى إلى مرسوم مجلس الدفاع عن فلسطين، والذي استكملته أيضا بأوامر أعطت الإدارة المدنية في فلسطين صلاحيات تعادل تلك الممنوحة للجيش بموجب الأحكام العرفية.

وفي نيسان/أبريل 1936 أصدر المندوب السامي عددا من أنظمة الطوارئ التي سمحت لحكومة الانتداب بفرض حظر التجول، ومراقبة المواد المكتوبة، واحتلال المباني، والقيام بالاعتقالات دون إذن قضائي، وترحيل الأفراد بدون محاكمة.

وجاء الاحتلال

وبعد انتهاء الانتداب ظلت أنظمة الطوارئ هذه تطارد الفلسطينيين، فبعد إنشاء دولة الاحتلال عام 1948 دمجت الحكومة الإسرائيلية أنظمة الطوارئ لعام 1945، إلى جانب الكثير من قوانين الانتداب في القانون الإسرائيلي من خلال قانون “القانون والإدارة” لعام 1948.

وطبقت هذه الأنظمة على الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، وبالمثل وبعد عام 1967 زعمت دولة الاحتلال أن القانون القائم في الضفة الغربية وقطاع غزة يشمل هذه الأنظمة، وبالتالي كانت متاحة لفرضها على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري الإسرائيلي.

وبهذه الطريقة ظلت أنماط العقاب الجماعي وسلطات “الطوارئ” الموسعة التي استخدمها البريطانيون لاستهداف السكان الفلسطينيين أساسا للنظام القانوني الذي عاش في ظله الفلسطينيون بعد انتهاء الانتداب.

الأسر كإستراتيجية

تشير الأرقام الضخمة لمن تعرضوا للأسر على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى أن الأسر إستراتيجية عامة تهدف إلى تطويع الشعب وإرغامه على الرضوخ للاحتلال، وذلك من خلال توسيع وتعميق الشعور بالألم والمعاناة بالتوازي مع أي تصاعد أعمال المقاومة.

وقدّر نادي الأسير الفلسطيني في ورقة حقائق أصدرها بتاريخ 17 أبريل/نيسان 2019 عدد حالات الاعتقال في صفوف الفلسطينيين منذ عام 1967 بنحو مليون حالة، بينها أكثر من 17 ألف اعتقال من الفتيات والنساء والأمهات وما يزيد على 50 ألفا من الأطفال.

وفي تقرير له بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2024 أشار إلى أن حصيلة الاعتقالات بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بلغت نحو 6330 فلسطينيا، وهذه الحصيلة تشمل من جرى اعتقالهم من المنازل وعبر الحواجز العسكرية ومن اضطروا لتسليم أنفسهم تحت الضغط ومن احتجزوا كرهائن.

بالمقابل، كان عدد الأسرى في سجون الاحتلال وفقا لتقرير للنادي بتاريخ 16 يوليو/تموز 2023 نحو 5 آلاف، من بينهم 32 أسيرة ونحو 160 طفلا و1132 معتقلا إداريا.

ووثق تقرير لمنظمة العفو الدولية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 شهادات المعتقلين المفرج عنهم ومحامي حقوق الإنسان، فضلا عن لقطات الفيديو والصور التي تظهر جانبا من أشكال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة التي تعرض لها المعتقلون على أيدي القوات الإسرائيلية، والتي تشمل الضرب المبرح وإذلال الأسرى، بما في ذلك إجبارهم على إبقاء رؤوسهم محنية والركوع على الأرض أثناء تعدادهم وإرغامهم على غناء أغانٍ مؤيدة لدولة الاحتلال.

وتندرج أعمال التعذيب هذه ضمن إستراتيجية الاحتلال في كسر إرادة مقاومة الاحتلال لدى الشعب الفلسطيني ورفع تكلفة المقاومة جسديا ونفسيا على الأسرى ومحيطهم الاجتماعي.

نقطة تحول

كانت آخر عملية لتبادل الأسرى في أكتوبر/تشرين الأول 2011، أي قبل قرابة 13 عاما من عملية طوفان الأقصى، وهي فترة طويلة بالنسبة للأسرى الذين أصدروا بيانات في السنوات الماضية تطالب بعدم نسيانهم في سجون الاحتلال.

وهي مهمة أولتها المقاومة -خصوصا في قطاع غزة- أولوية كبرى باعتبارها عنوانا لاستمرارية النضال الفلسطيني وردا لشيء من الجميل لهؤلاء الأسرى، وإعادة لهم إلى ساحة النضال والمقاومة من جديد.

وبالتأكيد، فإن هذا السبب لم يكن وحده الدافع إلى عملية طوفان الأقصى، بل هو مندرج ضمن أهداف أخرى كمواجهة مساعي تقسيم المسجد الأقصى وتصفية القضية الفلسطينية وتطويع قطاع غزة بالحصار المستدام كما أظهرت وثيقة نشرتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشأن أسباب العملية بتاريخ 21 يناير/ كانون الثاني 2024.

صفقة متوقعة

وعلى الرغم من تشديد الإجراءات العقابية للأسرى عقب عملية طوفان الأقصى فإن هناك استبشارا بقرب الإفراج عنهم بصفقة تبادل تسعى لها دولة الاحتلال لاستعادة قرابة 136 أسيرا إسرائيليا في قطاع غزة.

وأوردت القناة الـ12 الإسرائيلية بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2024 أن حركة حماس تشترط الإفراج عن 100 أسير فلسطيني مقابل كل أسير إسرائيلي، إضافة إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي بشكل كامل من قطاع غزة، وتهدئة ما بين 10-14 يوما قبل الإفراج عن أي أسير إسرائيلي، وتهدئة لمدة شهرين بين كل مرحلة وأخرى من مراحل الصفقة.

وفي حال حصول صفقة بأعداد مقاربة لهذه الأعداد فإن هذا يعني تحرير كافة الأسرى من سجون الاحتلال، وهو إنجاز لم يتحقق منذ عقود عدة، ولم تتمكن عقود من مفاوضات التسوية السلمية في تحقيق ذلك أو حتى الإفراج عمن تم أسرهم قبل توقيع اتفاقية أوسلو للتسوية السلمية عام 1993.

ومن شأن خطوة كهذه إعطاء دفعة جديدة لمسار المقاومة، إذ كان للأسرى المفرج عنهم في صفقة عام 2011 دور أساسي في تصعيد العمل المقاوم، وشكلوا الجزء الأكثر تأثيرا في قيادة المقاومة الفلسطينية خلال العقد الماضي.

شكوك بالتزام الاحتلال

في المقابل، فإن التزام الاحتلال بشروط أي صفقة أمر مشكوك فيه، إذ إنه أعاد اعتقال بعض الأسرى المفرج عنهم بموجب صفقة “وفاء الأحرار لعام 2011″، بل أعاد اعتقال أحد الأطفال الذين أفرج عنهم بموجب صفقة التهدئة والتبادل في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

وفي حال استمرار الحرب أو التصعيد الشديد في الضفة الغربية أو قطاع غزة فإن استمرار حرية الأسرى المفرج عنهم قد يكون مرهونا بعدم قدرة الاحتلال على إعادة أسرهم أو اغتيالهم، إما بضغوط سياسية من ضامنين لأي صفقة تبادل، وهو أمر مشكوك في قدرته على ردع دولة الاحتلال، أو باتخاذهم الإجراءات التي ترفع تكلفة إعادة أسرهم، كالاختفاء أو مقاومة الأسر.

وفي المحصلة، سيبقى هذا الملف جبهة مواجهة وصراع ما دام الاحتلال مستمرا، فالاحتلال في حقيقته أسر لشعب كامل في سجن مفتوح، سواء بحصار غزة أو بالجدار العازل والحواجز في الضفة الغربية.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *