مع بدء الجيش الإسرائيلي بالانسحاب تدريجياً من مناطق في قطاع غزة، فإن المكاسب التي حققها ضد حركة حماس، تعد بحسب مسؤولين عسكريين وأمنين، “كبيرة لكنها غير كاملة”، الذين اعتبروا أنها “مهددة بفقدان فوائدها بسبب الافتقار إلى استراتيجية ما بعد الحرب”، وفقا لتقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
وعلى الرغم من استمرار القتال البري المكثف في مدينة خان يونس ومناطق أخرى جنوبي قطاع غزة، يقول الجيش الإسرائيلي إنه يبتعد عن تكتيكات القصف واسع النطاق، وإنه ينتقل إلى حملة أكثر تركيزًا من الغارات والاغتيالات المستهدفة، بغية القضاء على القيادة العسكرية لحركة حماس، المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة ودول أخرى.
وتحدثت صحيفة “واشنطن بوست” مع 7 مسؤولين وجنود احتياط حاليين وسابقين إسرائيليين، بشأن التقدم المحرز في الحرب وأهدافها النهائية. وطلب معظم المصادر عدم الكشف عن هويتهم.
الخسائر والرهائن.. حرب غزة تضع نتانياهو أمام “معضلة” معقدة
يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي تحديات معقدة بعد أكثر من 100 يوم من إعلانه الحرب على غزة ردا على هجوم شنته حركة حماس على إسرائيل تسبب في مقتل نحو 1200 شخص غالبيتهم مدنيون.
وقال مسؤول عسكري: “لقد ألحقت الحرب الضرر بحماس باعتبارها كيانا إرهابيا، لكن هذه ليست مهمة تنتهي في 3 أشهر”.
وقد قُتل ما لا يقل عن 9000 مسلح من الحركة الفلسطينية حتى الآن، وفقًا للجيش الإسرائيلي، أي أقل من ثلث مقاتلي حماس البالغ عددهم 30 ألف مقاتل، بحسب بعض التقديرات.
ولا يزال زعيم حماس في القطاع، يحيى السنوار، وكبار مساعديه طلقاء، في حين أن الحركة الفلسطينية لا تنشر أرقاما لعدد قتلاها في الحرب.
“إنجازات قد تصبح عابرة”
ونفى مسؤول في حماس الأرقام الإسرائيلية. وقال للصحيفة الأميركية، متحدثاً بشرط عدم الكشف عن هويته، وتماشياً مع القواعد التي وضعتها جماعته: “أعتقد أن الإسرائيليين يحاولون تجميل إنجازاتهم”.
من جانب آخر، توقفت تقريباً عمليات إطلاق صواريخ حماس بعيدة المدى نسبياً من غزة، والتي كان عددها بالآلاف في بداية الحرب.
وتقول إسرائيل إنها دمرت الآلاف من مخزونات الأسلحة ومواقع إنتاج الصواريخ وممرات الأنفاق على مدى 3 أشهر من المعارك.
لكن دون استراتيجية لـ”اليوم التالي”، كما يقول المسؤولون، فإن هذه الإنجازات يمكن أن تكون “عابرة”.
ويواصل رئيس الوزراء، بنيامين نتانياهو، الإصرار على أن القضاء التام على حماس يظل هو هدف الحرب، إذ قال، الخميس: “الأمر لا يتعلق فقط بضرب حماس، فهذه ليست جولة أخرى معها، بل نسعى لتحقيق نصر كامل”.
ومنذ بداية الصراع، كان القادة العسكريون يتبنون وجهة نظر أكثر واقعية، معتقدين أنه في ظل الظروف الحالية، يمكن إضعاف الحركة، لكن لا يمكن تدميرها.
وفي حين باشرت إسرائيل في تقليص عملياتها في غزة، فإن هذا التوتر غير المعلن بشأن استراتيجية ما بعد الحرب، بدأ ينتشر في الرأي العام، وفق الصحيفة.
واتهم غادي آيزنكوت، القائد الأعلى السابق للجيش الذي قُتل ابنه في غزة الشهر الماضي، نتانياهو في مقابلة أجريت معه مؤخرا، بسرد “حكايات طويلة” عن الحرب دون “االتوصل إلى إنجاز استراتيجي”.
وقُتل 21 جنديًا إسرائيليًا، الإثنين، عندما أطلق مسلحو حماس قذيفة على دبابة بالقرب من مبنيين معدين للهدم، حسبما قال الجيش الإسرائيلي، مما أدى إلى انفجار المتفجرات، وهو الحادث الأكثر دموية للقوات الإسرائيلية في غزة.
وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانييل هاغاري، للصحفيين، الثلاثاء، إن عدد القوات وكثافة القتال في غزة “سيستمران في التقلب والتغير”.
وتابع: “ستكون هناك حاجة إلى المزيد من جنود الاحتياط في جميع ساحات القتال، وبالتالي فإن جيش الدفاع الإسرائيلي يعمل من خلال تحريك القوات وتركيز الأنشطة”.
كانوا ينفذون خطة “المنطقة العازلة” المثيرة للجدل.. تفاصيل مهمة الـ21 جنديا القتلى بغزة
كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن إسرائيل كانت تحاول هدم جزء من ضاحية فلسطينية في إطار مساعيها لإنشاء منطقة عازلة بين قطاع غزة وإسرائيل، وذلك حينما قتل 21 جنديا في انفجار الاثنين.
ولم يكشف المسؤولون الإسرائيليون عن عدد القوات التي لا تزال في قطاع غزة وتلك التي انسحبت منه، إلا أنه لا يزال هناك ما لا يقل عن 3 ألوية قتالية على الأرض، بحسب بيان للجيش الإسرائيلي صدر في وقت سابق من هذا الشهر.
وانسحب لواء غولاني، وهو وحدة مشاة خاصة، من حي الشجاعية في مدينة غزة الشهر الماضي.
وتمت إعادة تمركز بعض الجنود على طول الحدود الشمالية مع لبنان، حيث يلوح في الأفق خطر نشوب حرب أوسع نطاقاً، في حين عاد آلاف آخرون إلى وظائفهم وأسرهم، وهو ما تأمل الحكومة بأن يساعد في إنعاش اقتصاد إسرائيل الذي تأثر بالحرب.
وقال المسؤول العسكري الذي تحدث للصحيفة، إن العملية البرية والجوية في غزة “فككت بشكل فعال غالبية ألوية حماس الخمسة (المكونة من 24 كتيبة تضم كل منها ما يصل إلى 1400 مقاتل)”، لافتا إلى أن “أكثر من 100 من القادة قتلوا”.
وقال مسؤولون إسرائيليون إنه تم “تعطيل 17 كتيبة من أصل 24 كتيبة تابعة لحماس، معظمها في الأجزاء الوسطى والشمالية من القطاع، إلى درجة أنها باتت تشبه إلى حد كبير مجموعات صغيرة من المقاتلين مقارنة بالوحدات العسكرية المعروفة”.
لكن المسؤولين يعترفون بوجود آلاف من المتشددين، إذ قال الجنرال عساف أوريون، ضابط احتياط كان في الخدمة الفعلية بعد هجمات حماس: “إنها تتغير من هيكل إلى كومة، لكن لا يزال بإمكان الكومة أن تقاومك”.
وأضاف: “هذا لا يعني أن حماس ماتت، لكنهم بالتأكيد لا يستطيعون فعل ما فعلوه في 7 أكتوبر”.
وتبين أن شبكة أنفاق حماس أكثر اتساعًا بكثير من تقديرات الجيش الإسرائيلي السابقة، حيث تمتد لأكثر من 300 ميل في الجنوب وحده، وفقًا للمسؤول العسكري.
وقد اكتشف الجيش الإسرائيلي أكثر من 5600 من الأنفاق، وفقا لمسؤول أمني سابق مطلع على المعلومات الاستخبارية، وتم تدمير الكثير منها، لكن نطاق الشبكة الجوفية، التي بنيت سرا على مدى سنوات عديدة، يعني أنه من غير المرجح أن يتم تفكيكها بالكامل.
“تهديد قاتل”
وقال المسؤول الأمني السابق، إن غالبية الاغتيالات الإسرائيلية في غزة “استهدفت أعضاء من ذوي الرتب المنخفضة والمتوسطة في حماس، وذلك كجزء من استراتيجية لتجريد الجماعة من كتلة حرجة من المقاتلين”.
وقال إن الجيش الإسرائيلي “أصبح جامدا”، ومكلفا بالحفاظ على السيطرة على المناطق الهادئة، بدلا من محاولة كسب المزيد من الأرض.
وفي شمال غزة ووسطها، تباطأت وتيرة الحرب بما يكفي لتمكين بعض الفلسطينيين من العودة إلى أحيائهم المدمرة، على الرغم من أن إعادة البناء هي أمل بعيد المنال.
وفي الجنوب، يتجمع أكثر من مليون نازح بالقرب من الحدود المصرية، حيث تحذر منظمات الإغاثة من انتشار الأمراض، وأن أكثر من 90 بالمئة من سكان غزة ليس لديهم ما يكفي من الطعام.
ومع ذلك، فإن الخلايا الصغيرة من مقاتلي حماس، المختبئين في الأنفاق وأنقاض المباني، لا تزال تشكل تهديداً قاتلاً، حسب الصحيفة الأميركية.
فبعد إطلاق وابل من الصواريخ من القطاع، الأسبوع الماضي، باتجاه مدينة نتيفوت الجنوبية، تمكنت القوات الإسرائيلية من محاصرة موقع الإطلاق بسرعة في وسط غزة وقتل العديد من المقاتلين، وفقا لمسؤول عسكري مطلع على العملية.
ماذا بعد؟
لكن كيف يمكن لإسرائيل أن تمنع حماس من إعادة بناء قوتها؟.. يظل هذا سؤالاً مفتوحاً ومربكاً للقادة العسكريين في إسرائيل، فالكيان الذي سيحكم غزة في نهاية المطاف – سواء كان السلطة الفلسطينية، كما تدعو الولايات المتحدة إلى ذلك، أو قوة دولية، وهي فكرة طرحها بعض المسؤولين الإسرائيليين – سيحدد ما إذا كان بإمكان قوات الجيش الإسرائيلي العمل من مواقع دائمة داخل القطاع، أو الرد من قواعد عسكرية عبر الحدود.
وأظهرت استطلاعات رأي، وفق “واشنطن بوست”، أن البقاء في الداخل “سيكون بمثابة إعادة احتلال غزة، وهو هدف يدعمه السياسيون اليمينيون المتطرفون، لكن تعارضه بشدة واشنطن ومعظم الإسرائيليين”.
ووفقا للمصدر العسكري فإن الوجود الأمني طويل الأمد، الذي من شأنه أن يجعل إسرائيل “مسؤولة عن المدنيين الفلسطينيين، ويعرض القوات لتهديدات مستمرة”، تم رفضه باعتباره “سيناريو كابوسي” من قبل معظم المؤسسة الأمنية.
وسيكون العمل من خارج القطاع ممكنا عمليا، لكنه سيتطلب شراكة أمنية مع السلطات الحاكمة، على غرار اتفاق إسرائيل مع السلطة الفلسطينية في أجزاء من الضفة الغربية.
“قص العشب”
وقال أوريون إن “قص العشب” – وهو المصطلح الذي يطلق على استراتيجية إسرائيل السابقة المتمثلة في إنشاء ردع مؤقت عن طريق تقليص قدرات الجماعات المسلحة الفلسطينية، وليس القضاء عليها – يميل إلى أن يصبح أكثر خطورة بمرور الوقت.
واستشهد بحملات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، والتي أصبحت قاتلة بشكل متزايد لكلا الجانبين خلال العام الماضي، مع تدفق الأسلحة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حسب الصحيفة.
وقال: “كما ترى فإن قص العشب في الضفة الغربية أصبح أكثر صعوبة وأكثر حركية.. وغزة تمثل مستوى أعلى بكثير من التحدي”.
وقال المسؤول الأمني الإسرائيلي السابق، إنه “بدون جهد دولي منسق للحد من قوة حماس في غزة ما بعد الحرب، فإن خطر إعادة تجميع مقاتليها سيظل قائما إلى الأبد”.
وأضاف: “تم التعامل مع الجناح العسكري لحماس، وليس عناصرها السياسية، بكفاءة حتى الآن، لكن ماذا سيحدث الآن في قطاع غزة، وكيف سيكون رد فعل حماس سياسيا وعسكريا، وكيف ستعيد الحركة تنشيط قواتها.. كل ذلك لم يتضح بعد”.
وتلوح في الأفق مسائل أمنية حاسمة أخرى، إذ قال المسؤولون العسكريون الإسرائيليون إن منع حماس من إعادة التسلح بأسلحة خارجية “سيتطلب تأمين معبر رفح على الحدود بين غزة ومصر”.
ويقاوم المسؤولون المصريون بالفعل خطة إسرائيلية للسيطرة على المنطقة العازلة على طول الحدود “محور فيلادلفيا”، التي تقول إنه “انتشرت أنفاق التهريب فيها في الماضي”.
وهناك أيضاً القضية الملحة المتعلقة بأكثر من 100 رهينة ما زالوا محتجزين في قطاع غزة، حيث أقامت عائلات الرهائن مخيما في نهاية الأسبوع خارج منزل نتناياهو، ودعوا الحكومة إلى القيام “بكل ما هو ضروري لضمان إطلاق سراحهم”.
وفي الشهر الماضي، قتل الجيش الإسرائيلي عن طريق الخطأ 3 إسرائيليين فروا من خاطفيهم.
وتعليقا على أزمة الرهائن، قال هين أفيغدوري على منصة إكس، الأحد، إنه “إذا تخلت دولة إسرائيل عن رهائنها، فإن 1200 جندي ومواطن قتلوا في 7 أكتوبر سيكونون قد قضوا عبثًا”.
وكانت زوجة أفيغدوري، وابنته البالغة من العمر 12 عاما، قد احتجزتا في قطاع غزة لمدة شهرين تقريبا قبل إطلاق سراحهما خلال هدنة إنسانية قصيرة الأمد في أواخر نوفمبر.
وختم الرجل تدوينته بالقول: “لا نصر دون عودة بقية الرهائن”.