باريس – في لعبة أدبية فنية دائرية مخاتلة، ينبش الروائي التونسي الحبيب السالمي في روايته الجديدة “عطلة في حي النور” -الصادرة حديثا عن دار الآداب- خفايا التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية في تونس بعد 13 عاما على قيام “ثورة الياسمين”.
أبطال الرواية حارس عمارة، وصحفية مطلقة، وشاب مغامر مولع بتربية الكلاب؛ 3 أشخاص تعرف عليهم البطل عادل المترجم الذي يقيم في باريس في حي “النور”، في إحدى ضواحي العاصمة؛ حيث استأجر شقة مفروشة لقضاء عطلته.
ومن خلال العلاقة الغامضة والمتقلبة التي يقيمها البطل عادل مع الصحفية، وصداقته لحارس العمارة ولقاءاته بالشاب المغامر ترتسم صورة جديدة لتونس الثورة.
وعبر شخصيات مثل عادل ومريم وعبد الله ولمياء وسعاد يتعرف القارئ على هذه الصورة الجديدة وعلى التحولات العميقة للمجتمع التونسي من خلال الحوارات والنقاشات والسرد و”المونولوج” الداخلي، ويكتشف بواطن هذه الشخصيات وطريقة تفكيرها وتقلباتها، في رجع صدى لتقلبات ثورة الياسمين.
من التلميح إلى التصريح
وعلى خلاف رواياته السابقة التي حضرت فيها الثورة بشكل عرضي، ينتقل السالمي في روايته الجديدة “عطلة في حي النور” من التلميح إلى التصريح ليخوض بصفة واضحة عميقة في أحداث وتقلبات الثورة التونسية خلال العشرية الأخيرة.
ولأول مرة تحضر “ثورة الياسمين” كمحرك جوهري للأحداث والشخصيات وتؤثر في مسار تطورها، بل إنها تتحول في كثير من المواضع شخصية رئيسية تدور حولها رحى الأحداث وتعود إليها كنقطة ارتكاز وحيدة.
ومنذ أول جملة في الرواية: “القطط أول من استقبلني في مجمع الفل السكني”، وآخر جملة أيضا: “تجمعت قطط كثيرة حول أكياس القمامة التي ألقي بها السكان هناك.. كانت تنبش الأكياس بحثا عن الطعام”، يتوحد السالمي ويتماهى تماما مع شخصياته، ليتحول إلى قط متوثب يطارد خيوط التحولات السريعة والتقلبات المتناقضة التي عاشها المجتمع التونسي خلال العشرية الأخيرة من الثورة، وينبش فنيا في أكياس الواقع المكتنزة بالمفاجآت والأحداث والمظاهرات والاعتصامات والانفجارات وحتى الاغتيالات السياسية.
بل إن السالمي بحدسه المتيقظ وحرفيته المعهودة في التقاط التفاصيل المهملة للحياة اليومية البسيطة وتحويلها إلى أحداث ورموز سردية قصصية مدهشة، يذهب أبعد من ذلك بكثير حين يزج بالكلاب والقطط والحيوانات في هذه الأمثولة الرمزية ويجعلها شخصيات رئيسية في الرواية تحرك الأحداث وتحرر “العقدة” وتبرر “الحل”، ولا ينقصها سوى الكلام، وفي ذلك كله مقاربة قصصية فنية إيحائية لحدث الثورة تعتمد السخرية السوداء وترسم لوحات هزلية عبر “كوميديا الموقف” التي تتغذى على التناقضات.
الصدمة الفنية
ومنذ تأخر إقلاع الطائرة التونسية 3 ساعات دون ذكر السبب، ومرورا بمشهد القطط المنتشرة في كل مكان، ووصولا إلى مجمع الفل السكني في حي النور الذي انهارت بوابته الخشبية وأزيل سياجه وذبلت شجيراته وجفت حديقته، وانتشرت أكياس القمامة والنفايات في مدخله وعمت الفوضى كل أرجائه، يقع القارئ في حيرة ويصاب بصدمة تجاه الثورة التي غيرت وجه الواقع التونسي خلال سنوات من انطلاقتها.
هي الصدمة الفنية التي بطنها السالمي في كامل ردهات وأحداث روايته لكي يسلط الضوء على التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والواقع التونسي بعد الثورة، وكأنه تعمد اعتماد مبدأ ولعبة التداوي بالصدمة الذي يعتمده أطباء علم النفس لتشريح هذه الأحداث والثورة التي هزت المجتمع التونسي الذي كان مريضا بالقمع والاستبداد والخوف والدكتاتورية لعقود خلت، وحال خروجه من هذا القمقم الذي عاش فيه فترة طويلة؛ صار مهوسا بالحرية والنقاش والانطلاق والكلام والتعبير حتى كادت تتحول الى أنانية وفوضى واهمال، بحسب الرواية.
حيث نقرأ هذا المشهد والمقطع: “معظم ما في حديقة المجمع تغير. شجيرات الورد والياسمين فقدت الكثير من أوراقها وذبلت وتراكمت عليها الأتربة التي تذروها الرياح. بعضها مات ولم يتبق منه إلا جذوع متيبسة أو سيقان منغرسة في الأرض. اكتسح الجفاف الحديقة طوال فصول الصيف القائظة التي تعاقبت عليها. حتى التراب تبدل لونه”.
وفي هذا السياق أشار الحبيب السالمي إلى أن مشهدي “مجمع الفل” الذي انهارت بوابته الخشبية وفقدت حديقته كل ما كان يميزها فتحولت إلى مجرد قطعة أرض مهملة، والقطط الهزيلة التي تنبش أكياس النفايات التي ألقى بها سكان عمارات المجمع بحثا عن الطعام، هما مدخلان أساسيان لولوج عالم “عطلة في حي النور”.
وقال السالمي في حديثه للجزيرة نت: “إن مقاربتي لهذه التحولات ليست أيديولوجية ولا حتى سياسية؛ أي أنها لم تتم عبر تناول أحداث سياسية بالرغم من أهمية هذه الأحداث، وإنما من خلال عرض هذه المشاهد وغيرها والتوقف عندها وأيضا من خلال وصف سلوك ومواقف الشخصيات الأساسية والتعمق في بواطنها.
ويوضح: “إن التحولات التي أقتفي آثارها لا تقتصر على العالم الخارجي وإنما تمتد أيضا إلى ما هو أعمق وهو نفسية التونسي وأفكاره وأحاسيسه أثناء السنوات التي أعقبت الثورة. إنها نفس المقاربة التي اعتمدتها في رواية “نساء البساتين” التي كتبت ونشرت قبل الثورة ورأى فيها عدد من النقاد تنبؤا بهذه الثورة”.
لافتا إلى أنه منذ البداية أراد أن يكتشف القارئ عمق التحولات التي أحدثتها الثورة في المجتمع التونسي بعد مرور سنوات طويلة على قيامها.
منحاز للطبقات المهمشة
تنساب أحداث الرواية -الواصلة أخيرا للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد- في لغة جزلة وجمل قصيرة وانتقال سلس وحبكة متينة لتدخل القارئ في “حي النور” وتصاحبه ليقضي العطلة الصيفية مع البطل عادل ويتعرف على جيرانه وأقربائه ويصاحبهم في حلهم وترحالهم ويتورط معهم في ورطاتهم وخصوماتهم ويستمتع بسهراتهم ويتعطر بضحكاتهم ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم؛ عبر لعبة محبوكة من قبل الراوي العليم الذي يستدرج القارئ بـ”اعتمالاته” الداخلية وحيرته المخاتلة وأسئلته الانكارية المفخخة ولذة القص، ليطبق عليه الفخ أخيرا ويجد نفسه متوحدا مع أبطال الرواية ومتشوقا لأمثولتهم الشخصية التي تذهب أبعد من ذلك بكثير.
كما يحدث مع بطل الرواية عادل الذي يدفعه الراوي العليم الى استئجار شقة مفروشة في مجمع الفل رغم الفوضى والخراب الذي طاله، حيث نقرأ هذا المقطع “المجمع ليس فخما وحي النور الذي يقع في إحدى ضواحي تونس حي متوسط. ومع ذلك، أعجبت به منذ البداية. الحقيقة أن وجودي في حي كهذا هو أحد الأشياء التي تجتذبني إليه. لم أعد أتحمل الإقامة لمّا أزور تونس في مجمعات راقية أو النزول في الفنادق الفخمة الباردة كما لو أني سائح أجنبي”.
كما أن السالمي يلبس عمدا بطله “عادل” جبة التواضع ولبوس الطبقات المهمشة، فنراه يحب الحديث مع الأشخاص الذين ينتمون لطبقات اجتماعية أقل منه، ونراه كذلك يفضل أن يأكل الفجل في الصباح بدلا من الفطور اللذيذ الذي تعده زوجته صوفي.
فهل يعكس هذا الانحياز من البطل للثورة والطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، انحياز الكاتب الحبيب السالمي لهذه الطبقات وللثورة التونسية وتشبثه ببارقة أمل رغم كل المنغصات التي أصابت بلاده وأصابت ثورتها؟
يجيب صاحب رائعة “روائع ماري كلير” عن هذا السؤال بالقول: “إصرار عادل على هجر الفنادق أثناء العطلة التي يقضيها في بلده الذي عاد إليه بعد غياب طويل والإقامة في حي متوسط يقع في إحدى ضواحي تونس يتماشى إلى حد بعيد مع مبادئه. فهو قد عاش قبل أن يهاجر إلى فرنسا في أمكنة شبيهة بحي النور. ثم إنه ينتمي إلى طبقة متوسطة كالتي ينتمي إليها سكان هذا الحي. بالإضافة إلى ذلك فإن مثل هذه الأحياء هي التي تتجلى فيها بوضوح التحولات التي طرأت على المجتمع التونسي بعد الثورة”.
وأكد أنه منحاز للطبقات المهمشة الشعبية والمتوسطة لأنها أهم في تقديريه من الطبقات المرفهة. ولأنها في اختبار متواصل لطاقاتها وفي اشتباك دائم مع الحياة. صلتها بالعالم تراجيدية. وهذا يجعلها في رأيه أكثر عمقا وثراء من الطبقات الأخرى.
وأوضح أن الروائي ليس منفصلا تماما عن شخصياته. وأن هناك شيئا منه في شخصية عادل.
الثورة لا تخلو من الانتكاسات
أما بخصوص الثورة فأشار السالمي في معرض حديثه للجزيرة نت إلى أنه لم يتفاجأ كثيرا بالمشاكل التي يعاني منها التونسيون بسبب انهيار الاقتصاد وغلاء المعيشة والوضع السياسي الكارثي وذلك لاعتقاده بأن الثورة مسار طويل معقد. وهو لا يخلو من الفوضى والعنف والانتكاسات.
واعتبر أن الوضع لا يتحسن بمجرد الإطاحة بالنظام الدكتاتوري الفاسد كما يتوهم البعض؛ لأن مرحلة إرساء الديمقراطية وقيم العدالة والمساواة الذي من المفترض أن يؤدي إلى تغير إيجابي وحقيقي في حياة الشعوب تستغرق وقتا طويلا.
تحاول رواية “عطلة في حي النور” الحفر بمعول القص في ثنايا الواقع التونسي المعقد في العشرية الأخيرة، وتفكيك البنية الاجتماعية، والغوص بعمق في دواخل ونفسيات وبواطن الأفراد والشخصيات، وترصد الاعتمالات والتشنجات والتوترات التي تنتابهم والأسئلة الجديدة القديمة التي ظهرت للسطح مع الثورة وكأن الناس اكتشفوا حياتهم من جديد، واكتشفوا إنسانيتهم من جديد بعد أن كانوا “عبيدا” للدولة البوليسية والدكتاتورية.
كما نقرأ في هذا المقطع من الرواية: “فجأة، اكتشف التونسيون متعة أن يكون لك رأي في السياسة، والأهم من ذلك ألا تتفق مع الآخر، وأن تعبر عن هذا الرأي بحرية ومن دون أي خوف، فغرق البلد في جدل لا نهائي ونقاشات ساخنة، تنتهي أحيانا بالشتائم، وتبادل التهم، وحتى بالعراك بالأيدي والنعال. بل سمعت أن أزواجا طلقوا زوجاتهم، بسبب هذه الخصومات الأيديولوجية، التي هبت على البلاد بغتة مثل إعصار”.
يعبر هذا المقطع ويلخص مشهد العنف الذي وقع بين أصدقاء البطل عادل في المقهى، حالة الاستقطاب والانقسام التي يعيشها المجتمع التونسي بعد الثورة وسقوطه في فخ العنف والتخوين والمعارك الأيديولوجية التافهة.
وهناك من يرى أن هذه الصراعات نتاج طبيعي لسنوات الكبت والانغلاق السابقة زمن الدكتاتورية، ويعتبرها علامة صحية وإيجابية على السير في الطريق الصحيح من أجل الخروج من قمقم الماضي الاستبدادي والوصول الى الديمقراطية، وهناك من يراها السبب الرئيسي في انتكاسة الثورة التونسية والعربية.
يقول السالمي الحاصل على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2021 عن رواية “الاشتياق إلى الجارة”: “كل هذا الجدل الذي أعقب الثورة وحرصت على تصويره بنبرة تتسم بمزيج من الخفة والهزل والدعابة أمر مهم جدا وأعتبره ظاهرة صحية”.
وأردف: “هذا الجدل الذي يكاد لا ينتهي والذي نراه في كل البيوت والمدن والقرى في الأرياف النائية في تونس دليل على حيوية المجتمع وعلى الحضور الذي صار يمتلكه الفرد فيه. بروز الفرد في المجتمعات العربية التي تسودها القبيلة أمر أساسي في رأيي. إنه علامة نضج ووعي بالمسؤولية”.
وبعيدا عن الأيديولوجيا والمباشرة الفجة وقريبا من القص والحبكة الفنية المطرزة السلسة، نجح السالمي -لحد كبير بحسب نقاد- في رواية “عطلة في حي النور”، في مقاربة هذا الحدث السياسي بامتياز “الثورة” التونسية، ليحولها إلى حدث فني مشوق يحفل بالهزل والسخرية السوداء والموسيقى والرسم و”الغرافيتي” والفنون البصرية، ويغرف من السيرة الذاتية وينفتح على شتى صنوف الإبداع التي تتماهى مع لذة القص في تناسق واضح، لتصب كلها في النهاية في مجرى الإبداع الأصيل وتخدم الغاية الحقيقية للأدب التي تبحث عن أبعد من المتعة الآنية الحسية البسيطة، رغم أهميتها؛ لتحفر في الوعي العميق للمتلقي وتشرح تقلبات النفس البشرية الأمارة بالانعتاق والحرية والثورة رغم كل ما يلفها من سكون خارجي مخاتل.