لا تعكس المشاهد التي تعرضها الشاشات وتنشر عبر مواقع التواصل إلا جزءا من المعاناة الإنسانية الحاصلة في قطاع غزة، كما يقول من تحدث إليهم موقع “الحرة”، وبينما تتواصل الحرب الإسرائيلية وتشتد تداعياتها على الأرض، يجد من بقي على قيد الحياة نفسه في مواجهة “حربٍ من نوع آخر”.
ويقود هذه “الحرب” تجار لطالما ارتبط اسمهم بالأزمات والمناطق المحاصرة، ورغم أن الحديث عنهم يتركز الآن في غزة كون أنظار العالم موجهة إليها والمأساة غير المسبوقة على أشدها هناك، سبق وأن ظهروا في ساحات أخرى.
كما عرفهم السوريون الذين حاصرتهم قوات النظام السوري بدعم روسي وإيراني في مدن وأحياء عديدة، في أعقاب تحول الحراك السلمي في 2011 إلى مسلح.
لأكثر من مرة ردد بلال هركي، وهو أحد الشبان الذين نزحوا من خان يونس إلى رفح، مصطلح “تجار الحرب” خلال حديث عبر “واتساب” مع موقع “الحرة”، ويقول إن هذه الفئة تشكّل سببا للمعاناة الإنسانية، والتي “باتت تنهش بأجساد المنكوبين”.
وبعد ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية والحصار المطبق على القطاع لا تبدو غزة مدينة أو بقعة جغرافية قابلة للعيش وفق ما يشير هركي، بسبب تدمير كامل معالمها بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة.
ويشرح من جانب آخر بحسرة كيف اضطر للعيش في خيمة مجبرا ومكرها، وكيف أن المعاناة باتت تشتد مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية لأكثر من 10 أضعاف، بفعل الحصار المطبق وتحكم “تجار الحرب”.
يونس أبو جبل وأحد سكان القطاع أيضا يوضح لموقع “الحرة” أن الأسعار ارتفعت بشكل جنوني، وإلى جانب السبب المتعلق بالدور الاستغلالي لـ”تجار الحروب” حسب تعبيره، يشير إلى “غياب الأمن عن المشهد”.
“يمكن القول حاليا إن قطاع غزة أو مناطق النزوح لا تخضع لحكومة، حيث يغيب دورها بسبب تكدس الناس الكبير”، وفق أبو جبل.
ويضيف: “بعد 3 شهور.. الموت بغزة مش فقط بالصواريخ. الموت والحرب الحقيقية لما العائلات ما تلاقي حاجه تسد جوع أطفالها”. ويتابع: “الحرب الحقيقية لما الناس تنام بالشوارع مش لاقيه خيمة ينستروا فيها بهذا البرد القارص”.
“تعلو بعيدا عن الأضواء”
عبر مواقع التواصل الاجتماعي كثيرة هي المنشورات التي توثق عمليات الاستغلال التي يقوم بها “تجار الحرب” داخل القطاع، ومع ذلك تظل بعيدة عن الأضواء أمام مشاهد القتل والدمار وإسعاف الجرحى.
يكتب الصحفي كرم الغول عبر “فيسبوك”: “الناس هنا ليسوا سواسية.. ننقسم إلى قسميين.. قسم يُقاسم جوعنا وقسم يدفع الثمن.. تجار الحروب وسارقو المُساعدات نراهم في الشارع. يسرقون رغيفنا وحصتنا من فُتات ما ترميه لنا وكالة الغوث، ويبيعونه لنا بأغلى ثمن”.
ويضيف: “من يصدق بأن كيس الطحين وصل ثمنه إلى 750 شيكل! أي ما يقارب 200 دولار.. من منا يملك 200 دولار أسبوعيا بعد كل هذا الوقت العصيب من الحرب والحصار وإغلاق البنوك وغلاء الأسعار غير الإنساني في ظل غياب الرقابة؟”.
ويشير يامن حمد من جانبه عبر “فيسبوك” أيضا إلى “مسلسل نصب واستغلال تقوم به مكاتب وشركات الصرافة والحوالات الخارجية العاملة في مناطق جنوب ووسط قطاع غزة”.
ويوضح أنها “تسلّم الحوالات القادمة من الخارج للمواطنين بعملة الشيكل بدلا من عملة الحوالة الدولار، بالإضافة إلى صرف الحوالة بفارق كبير (40 شيكل أقل) عن سعر الصرف الرسمي”.
وفي حين تقول ناهد صالح إن “أسعار الخيم من أخشاب ونايلون تجاوزت ألف دولار.. للأسف معظم التسلسل التجاري في حالة اشتباه مطلق.. والسؤال مين حامي هذه العصابة!”.
من هم “تجار الحروب”؟
يمكن تسمية الفئة التي تتحكم اقتصاديا في مناطق الحروب والحصار بـ”تجار الحروب” أو “الاقتصاديون المتاجرين بالأزمات”، كما يقول مازن إرشيد الكاتب والخبير في الشؤون الاقتصادية.
وهؤلاء الأفراد أو الجماعات يستغلون الظروف الاستثنائية للحروب والحصارات لتحقيق مكاسب اقتصادية غالبا ما تكون كبيرة.
ويضيف لموقع “الحرة” أنهم “يستفيدون أيضا من انهيار الأنظمة التنظيمية وضعف الدولة، مما يسمح لهم بالسيطرة على الموارد النادرة والمهمة مثل المواد الغذائية والوقود والأدوية”.
ويوضح أستاذ الاقتصاد في جامعة ماردين، الدكتور عبد الناصر الجاسم أن وجود “تجار الحروب” أو “تجار الأزمات” قديم، ويرتبط بالبداية الأولى لوجود الصراعات في العالم.
ودائما ما تساعد بيئة الصراع ومناطق الحروب هذه الفئة على الظهور.
ويقول الأستاذ في الاقتصاد لموقع “الحرة”: “يمكن تعريفهم كأي شخص أو منظمة أو كيان يحصل على أرباح غير منطقية وغير معقولة في مناطق الحروب والأزمات، لأن الظرف يكون استثنائيا”.
الجاسم يشير إلى أن السمة الأساسية للأشخاص والكيانات (تجار الحروب) تكون مرتبطة في بعض الأحيان بأن لديهم “قوة تأثير مستمدة من علاقات وشراكات مع سلطات الأمر الواقع، بالإضافة إلى الخبرة المالية السابقة لهم في المجال”.
ويتابع أنهم “بالأصل كأشخاص وكيانات لا يتأثرون بالعمل الإنساني أبدا، ويمكن القول إنهم متكسّبون وجشعون بغض النظر عن أي واعز أو ضمير إنساني”.
“من الداخل إلى الخارج”
وتقول الأمم المتحدة إن 1.9 مليون شخص، أي نحو 85 في المئة من إجمالي سكان غزة هو الرقم المقدر للنازحين داخليا بسبب الحرب الإسرائيلية. ويتضمن هذا العدد الذين تم تهجيرهم عدة مرات.
كما تضيف أن القطاع “في شبه انهيار”، وإذا استمر التدهور الحاصل قد نرى وفيات ناجمة عن المرض والجوع.
ويشير إلى ذلك يونس أبو جبل، بقوله: “أصبحنا نأكل أشياء لا نعرف أصلها. في السابق كنا نستبعد فكرة الموت من الجوع ونراها مستحيلة. الآن إذا ظلّت الأمور على ما هي عليه سنسمع بأناس ماتوا من الجوع”.
ويضيف: “تخيّل أن الواحد نفسو يشتري لأطفاله حاجات وطعام ومش قادر!. كل شيء تضاعف بشكل جنوني بالأسعار.. وحياتنا عبارة عن جحيم”.
جانب آخر من المعاناة يتحدث عنه بلال هركي، ويتعلق بتكرار عمليات النزوح خوفا من القصف الإسرائيلي.
اضطر بلال لأكثر من مرة لدفع 150 دولارا ثمن التنقل من خان يونس إلى رفح مع عائلته، بعدما كانت ذات العملية تتم بـ10 دولارات فقط، حسب قوله.
ورغم أنه يفكر دائما بوسيلة للخروج من “الجحيم”، حسب تعبيره ومدفوعا بالظروف الصعبة التي يعيشها داخل الخيمة مع أخيه المصاب وعائلته المنكوبة يصطدم مبتغاه من أجل النجاة بـ”تجار حروب آخرين”.
ويقول إن هذه الفئة تفرض دفع مبالغ تزيد عن 5 آلاف دولار للشخص الواحد، من أجل تسجيل اسمه على معبر رفح، كي يتمكن من الخروج.
وسبق وأن سلط موقع “الحرة” الضوء على سعي بعض العائلات في غزة لـ”دفع كل ما تملك” للفرار من الحرب المستمرة منذ أشهر.
معبر رفح.. فلسطينيون ضحايا “المنسقين” للخروج من غزة
دخلت الحرب في قطاع غزة شهرها الرابع، وتتواصل معاناة الفلسطينيين النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه، والذين وصلوا إلى مدينة رفح على الحدود المصرية وسط ضربات إسرائيلية تطاردهم إلى تلك المناطق.
وأوقعت تلك المحاولة بعض العائلات في فخ شبكات احتيال واستغلال و”تجار حروب”، في محاولة للخروج من القطاع عبر معبر رفح على الحدود المصرية.
ونفت القاهرة ما وصفتها بـ”الادعاءات”، وقالت إن “التحصيل الرسمي لأية رسوم إضافية على القادمين من غزة عبارة عن مزاعم”.
“التأثر مدمّر”
ورغم أن قطاع غزة هو الساحة المثلى التي يبرز فيها دور “تجار الحروب” يشير الباحث الاقتصادي مازن إرشيد إلى أن ذات الظروف تمت رؤيتها سابقا في سوريا.
وكان الصراع الذي حصل في البلاد ومازال مستمرا قد أدى إلى تفشي السوق السوداء وتجارة الأزمات التي تشمل كل شيء من الغذاء إلى المواد الطبية.
وفي الحصار المفروض على مناطق في اليمن أيضا، ارتفعت تكلفة المعيشة بشكل كبير، وأصبح الحصول على الغذاء والماء تحديا يوميا للكثيرين.
من الناحية الاقتصادية يندفع “تجار الحرب” نحو تحقيق أرباح مالية كبيرة في ظروف تُعتبر غير مواتية للأعمال الاقتصادية التقليدية، وفق الباحث.
ويتابع أنه وفي ظل غياب القوانين والرقابة، يمكن لهؤلاء الأفراد أو الجماعات أن يفرضوا أسعارا عالية جدا على السلع الأساسية، مستغلين الحاجة الماسة للناس وعدم توفر البدائل.
أما من الناحية الإنسانية يشير الباحث إرشيد إلى أن “تأثير هذه الأنشطة يكون مدمرا”.
ويوضح أن “الأسر التي تعيش في مناطق الحروب والحصار تجد نفسها عاجزة عن توفير الاحتياجات الأساسية بسبب الارتفاع الشديد في الأسعار، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر والمعاناة”.
الباحث يؤكد أن الظروف التي تظهر في مناطق الحروب والحصار، مثل الارتفاع الشديد في الأسعار والاستغلال الاقتصادي من قبل تجار الحرب، يمكن اعتبارها جزءا من الديناميكيات “الطبيعية” للحروب.
ومع ذلك يشدد على أن “هذا لا يعني بالضرورة أنها مقبولة أو أنها لا تستدعي الاهتمام والتدخل”.
“قطط سمان”
ولا يعتبر الحصار جديدا على قطاع غزة، لكن وبعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر وما تبعه من بدء إسرائيل حربا واسعة النطاق اشتد على نحو أكبر، ووصل إلى حد إغلاق معبر رفح أمام المساعدات والسلع لأسابيع.
ولذلك يرى الأستاذ في الاقتصاد عبد الناصر الجاسم أن “سلوك تجار الحروب الحالي يجعل من المشهد أكثر مأساوية بينما تكون العواقب أصعب”.
وقد لا ينحصر عمل هؤلاء التجار في قطاع دون غيره، بل يشمل “تهريب الناس والاتجار بالبشر”، وصولا إلى المتاجرة بالمواد الغذائية واللباس والمواد الاستهلاكية، وما يمس حاجة الناس بشكل يومي.
ويطلق على جزء منهم ضمن أدبيات ودراسات النزاع “القطط السمان”، كما يوضح الأستاذ في الاقتصاد.
ويقول إنهم “يعملون بصيغة اضرب واهرب، لأن بيئة الحرب غير مستقرة وتتبدل بحسب الظرف السياسي والعسكري”.
الجاسم يشير إلى أن “هذه الفئة تستثمر في بيئة الحرب والنزاعات. وهو ما يبدو موجودا وواضحا في مجريات الأحداث في غزة”.
ويتابع أنهم “مختلفون عن رجال الأعمال والتجار التقليديين في أي مجتمع. هم بالأصل يعملون بطرق غير مشروعة وإن كانت مستورة، وعلى خط الخطر دائما ولهم علاقات مع السلطات حتى في الظروف الطبيعية”.
وعندما تحصل الحروب يظهرون على السطح، ويتعزز وجودهم، وفق حديثه.
من المسؤول؟
ودائما ما يحدث تغيير جذري في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في سياق الحروب، كما تتعطل الأنظمة التجارية العادية، وتتدهور البنية التحتية، وتنخفض القدرة الإنتاجية.
وتساهم هذه العوامل في خلق بيئة تسودها الفوضى الاقتصادية والاجتماعية، وتكون “مثالية” لظهور ممارسات مثل الاستغلال الاقتصادي والتلاعب بالأسعار، حسبما يوضح الباحث مازن إرشيد.
ومع ذلك يؤكد أنه من المهم التمييز بين ما هو “طبيعي” أو متوقع في ظل الحروب، وبين ما هو مقبول أخلاقيا وإنسانيا.
ورغم أن الحروب في طبيعتها تخلق ظروفا قاسية ومعاناة، لا يبرر ذلك استغلال الضعفاء أو تعميق الأزمات الإنسانية من قبل أفراد أو جماعات تسعى لتحقيق مكاسب شخصية.
ويضيف الباحث أن هذه الظروف ومن الناحية الاقتصادية تخلق ما يمكن تسميته بـ “الاقتصاديات الحربية”، حيث تصبح الأسواق مشوهة ولا تعمل وفقا للمبادئ الاقتصادية العادية.
وفي غضون ذلك تصبح السلع الأساسية نادرة ومكلفة، وينتشر السوق السوداء والتجارة غير الرسمية.
وبوجهة نظر إرشيد تقع المسؤولية الأساسية على الأطراف المتحاربة نفسها، سواء كانت حكومات أو جماعات مسلحة، وتتحمل أيضا المجموعات التي تستغل الوضع لتحقيق مكاسب شخصية مسؤولية كبير.
علاوة على ذلك تقع المسؤولية أيضا على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية التي قد تتأخر في التدخل أو قد لا تكون فعالة بما فيه الكفاية في معالجة الأزمات وتوفير المساعدات، حسب إرشيد.
ويردف أنه “في حالات عديدة تكون الاستجابة الدولية بطيئة أو غير كافية، مما يسمح لأزمات مثل تلك التي يخلقها تجار الحرب بالتفاقم”.
لكن أستاذ الاقتصاد عبد الناصر الجاسم يعتقد أنه “في مثل هذه الظروف من الصعب تجريم المسؤول وعلى من تقع المسؤولية”.
ومع ذلك يرى أن “جزء من المشكلة يتحملها المجتمع الدولي والمنظمات الأممية والهيئات التي تعلن في أهدافها الحفاظ على السكان المدنيين والسلم وما إلى ذلك”.
والجزء الآخر تتحمله سلطات الأمر الواقع ومن يحكم على الأرض.
ويضيف الجاسم أن “المسؤولية مرتبطة أيضا بالنظام المجتمعي والقيمي والسائد أصلا سواء في القطاع أو في أي منطقة تشهد نزاعات وحروب”.
“دوافع من أجل البقاء”
من الواضح أن الدافع الرئيسي لتجار الحرب “هو تحقيق الربح الأقصى من خلال استغلال الظروف الاستثنائية التي تخلقها الحروب”، وفق إرشيد.
الباحث يعود بالذاكرة إلى ما شهدته الحرب الأهلية في ليبيريا، عندما سيطر “تجار الحرب” على السلع مثل الوقود والمواد الغذائية، ورفعوا أسعارها بشكل كبير، مما أدى إلى تحقيق أرباح هائلة.
ويتحدث عن دوافع أخرى “تتعلق بالمخاوف من طول أمد الحرب والحصار”.
وفي بعض الحالات، يمكن أن يرى تجار الحرب أنفسهم كمشغلين للبنية التحتية الاقتصادية البديلة في ظل الفوضى وغياب الدولة.
ويمكنهم تبرير أفعالهم بأنهم يوفرون السلع الضرورية للسكان في ظروف صعبة، حسب ذات المتحدث.
ويشير إلى أنه يجب النظر أيضا في البيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بتجار الحرب.
ويقول إنه وفي بعض الحالات “يمكن أن تكون الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية متدهورة إلى درجة أن الأنشطة غير القانونية أو المشكوك فيها تصبح السبيل الوحيد للبقاء أو النجاة الاقتصادية”.
وقد تتشكل لتجار الأزمات والحروب علاقات وارتباطات دولية في بعض الأحيان تتعدى الحدود ويصبح لديهم أهداف، كما يوضح أستاذ الاقتصاد الجاسم.
وتشمل الأهداف استمرارية الصراع والحرب، لأن “تكسبهم وتربحهم أو أرباحهم غير المنطقية والهائلة مرتبطة بذلك”.
ويتابع الجاسم: “هذا لا يتحقق إلا بشبكة علاقات إقليمية ودولية خارجية”، ويعتقد أنه “في واقع قطاع غزة فإن كل الأطراف التي لها صلة ولها تأثير على الأرض لديها مصلحة وارتباط بهذه المجموعات”.