بيروت- قبل أكثر من شهر، لم يجد السوري وجدي رزق (26 عاما) سبيلا للهرب من الخدمة العسكرية بالجيش السوري إلا باللجوء لأحد المهربين السوريين، إذ سهّل له رحلة العبور من مدينته السويداء إلى لبنان، عبر واحد من مئات المعابر البرية غير الشرعية بين البلدين على امتداد نحو 340 كيلومترا.
كان لبنان مجرد محطة وصل إليها رزق، مثله مثل آلاف السوريين الذين يغريهم اللجوء غير النظامي من الساحل اللبناني إلى أوروبا على متن “قوارب الموت”.
أوصل المهرب السوري وجدي إلى آخر لبناني تولى تجميع سوريين سرا في أحد منازل طرابلس (شمال لبنان) وكانوا ممن ركبوا قاربا ضمّ نحو 85 لاجئا انطلق يوم 12 ديسمبر/كانون الأول 2023 متجها إلى قبرص، لكن أهالي اللاجئين فقدوا الاتصال بهم منذ اليوم التالي ومصيرهم مجهول حتى اليوم.
يأس شديد
يقيم أحد أقارب وجدي (يتحفظ على ذكر اسمه) بقبرص ويقول للجزيرة نت “كان بحالة يأس شديد ومعه مبلغ صغير، ساعدته مع قريب آخر بجمع 3500 دولار كان يطلبها المهربون عن كل شخص”.
ويضيف أنه تواصل معه عند الساعة 11 ليلا قبل انطلاقهم “ثم فقدت الاتصال به، كحال ذوي من كانوا بالقارب، ووصلنا منهم مقطع فيديو صغير لم يظهر فيه وجدي”.
شهر و5 أيام تصفها معظم عائلات المفقودين بالجحيم. فهل غرقوا أم وصلوا إلى قبرص؟ هل تم احتجازهم أم ضلوا الطريق؟ هل وصلوا اليونان أو تركيا مثلا؟ كلها احتمالات واردة بلا رواية كاملة.
تلك الليلة، كان البحر هائجا والمياه مرتفعة بفعل رياح فصل الشتاء. ومع ذلك، يستبعد معظم الأهالي فرضية غرق القارب، لأنهم لم يعثروا على جثامين أو أي أثر، وهو ما لم تصرح به بعد أي جهة رسمية.
ويوم 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، راسل ذوو أحد الضحايا الخط الساخن لمنصة معنية بالإنذار حول قوارب المهاجرين (Alarm Phone) للإبلاغ عن فقدان القارب الذي يحمل 85 مهاجرا، بينهم 35 طفلا، وأفادوهم ببعض الأسماء.
اليوم التالي، راسلت المنصة الشرطة البحرية والقاعدة البريطانية بقبرص وخفري السواحل التركي واليوناني، ولكن من دون جدوى، في حين أبلغتهم الشرطة القبرصية بوصول قارب في اليوم عينه يضم نحو 84 لاجئا، ولا يتضمن أيا من الأسماء المبلغ عنها.
وأفاد بعض أهالي الضحايا، للجزيرة نت، بانطلاق قرابة 3 قوارب في اليوم نفسه، مما قد يعني أن لاجئين آخرين وصلوا هناك. ويقول قريب وجدي إنه جال مع آخرين على مخيمات حدودية بقبرص، ولم يعثروا على أثرهم. كما أفادهم ممن كانوا على قارب آخر بالتاريخ عينه، بأنهم شاهدوهم خلفهم حتى تجاوزوا المياه الإقليمية ثم اختفوا.
وكان رئيس مركز “سيدار” للدراسات القانونية، المحامي محمد صبلوح، قد جمع أسماء 75 لاجئا منهم. ولا يوجد بالقائمة لبنانيون، بل جميعهم سوريون وأغلبهم جاؤوا من سوريا مباشرة وتحديدا من إدلب ودرعا وريف حلب، وحمص، والحسكة، والقنيطرة.
مراسلة وشكوى
وراسل “سيدرا” يوم 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي السلطات القبرصية والدول المجاورة، وقدم في الثاني من يناير/كانون الثاني الجاري شكوى لوزارة الخارجية اللبنانية، ومكتب مفوضية اللاجئين ببيروت وبالنيابة العامة التمييزية.
ويقول صبلوح للجزيرة نت “أكد الأهالي انطلاق المركب من طرابلس نحو قبرص، وهم بين قبرص اليونانية أو التركية أو القاعدة البريطانية، والجهات الرسمية لا جواب لديها عنهم، ولم تظهر جثث بالبحر، مما يفاقم الغموض حول مصيرهم”.
ويدعو السلطات اللبنانية إلى تحمل مسؤوليتها قضائيا وأمنيا وإنسانيا “لأن من اختفوا انطلقوا من شواطئها”.
وتتولى شعبة المعلومات التحقيق بالقضية، في حين يفيد مصدر أمني بالجيش اللبناني، للجزيرة نت، بأنه لم يرصد بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي انطلاق أي قارب هجرة غير شرعي من طرابلس.
ويوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، أنقذت بحرية الجيش 51 مهاجرا حين تعطل مركبهم على بعد أميال من شاطئ طرابلس، متجها إلى قبرص، وجميع ركابه سوريون باستثناء بعض الفلسطينيين، ثم رحّلتهم إلى سوريا.
أما قبطان القارب المفقود، حسب معلومات حصلت عليها الجزيرة نت، فهو لبناني الجنسية من محافظة عكار الشمالية، ويدعى ف. طالب (43 عاما). أما المهربون الثلاثة الأساسيون فهم لبنانيان وسوري ولديهم أسماء حركية، وأشاع بعضهم لأهالي المفقودين أن القارب أُلقي القبض عليه، وعلى القبطان أولا، ووجدوا فيه آلاف حبات الكبتاغون.
شكوك
لكن هذه الرواية محل تشكيك كبير، لأن هؤلاء المهربين، الذين يعملون بحرية، تلاعبوا بالأهالي وأخذوا شرائح وهواتف بعض اللاجئين لسبب غير معروف، وراسلوهم باليوم التالي معهم -عبر الواتساب- لإبلاغهم بأنهم وصلوا بخير إلى قبرص، ليكتشف الأهالي أن المتحدثين هم المهربون وليسوا أبناءهم، فوثقوا بعض المحادثات.
وتراودهم الشكوك بأنهم تعرضوا لفخ وخديعة من المهربين الذين حصدوا بهذه الرحلة نحو 250 ألف دولار، بمعدل 3 آلاف دولار عن الفرد.
وبعد محاولات عدة، تواصلت الجزيرة نت مع أحد أقارب القبطان الذي وصفه بالرجل “الفقير والدرويش” الذي يعمل بصيد السمك، ويتحدث البعض عن إغراء المهربين له ببعض آلاف الدولارات. وتعيش زوجته مع أطفالهما الأربعة في حيرة وخوف، وتخبرنا بأنه رحل من دون إبلاغها، مما يؤكد لها أنه كان ينوي العودة.
وتقول للجزيرة نت “أخبرني يومها هاتفيا أن لديه توصيلة طويلة، فظننت أنه سينقل ركابا بسيارة أجرة كما يفعل أحيانا، ولم يعد”. وتفيد بإبلاغها عن قصة الحبوب المخدرة وبأنها لم تصدقها، وتخشى أن يكون البحر ابتلع القارب من دون أن يعلم به أحد.
وحسب منصة الإنذار، حققت مفوضية اللاجئين بقبرص، في 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، في المخيمات ومراكز الاحتجاز من دون العثور على المفقودين، ونقلت المعلومات لمكاتب المفوضية بلبنان وتركيا واليونان.
وتفيد الناطقة باسم المفوضية بلبنان دلال حرب، بأنهم في عام 2023 وحتى 28 ديسمبر/كانون الأول، تحققوا من مغادرة 59 قاربا من لبنان، تحمل نحو 3528 راكبا، منهم 3298 سوريا، و76 لبنانيا، و5 فلسطينيين، علما أن هذه الأرقام لا تعكس حقيقة من عبروا نحو أوروبا من دون رصدهم، وهم بالآلاف.
وتقول حرب، للجزيرة نت، إنهم رصدوا وصول 29 رحلة من هذه القوارب إلى قبرص بنجاح، وتمت لاحقا إعادة 3 قوارب منها، “كما أن المفوضية على علم بوجود 45 حركة إضافية لقوارب من مكان مغادرة غير مؤكد إما سوريا أو لبنان”.
وقياسا لعام 2022، ارتفع عدد تحركات القوارب بنسبة 7.3%، بينما انخفض إجمالي عدد الركاب بنسبة 23.8%، وفق المتحدثة.
وفي تحقيق للجزيرة نت العام الماضي، تم الكشف عن تشابك عمليات الهجرة غير النظامية، برا (من سوريا للبنان) وبحرا (من لبنان إلى أوروبا)، وأن نحو 77% ممن أوقفهم الجيش اللبناني برحلات الهجرة بحرا يحملون الجنسية السورية بين 2019 و2022.
وإلى حين انكشاف مصير ركاب القارب المفقود، يبدو أن هذه النسبة مرشحة للتصاعد، مع توسع نشاط شبكات التهريب بين لبنان وسوريا، وتفاقم أعداد السوريين الذين يقعون بمصيدتهم.