تسعى بعض العائلات في غزة لـ”دفع كل ما تملك” للفرار من الحرب المستمرة منذ أشهر، ما أوقع البعض في فخ شبكات احتيال واستغلال و”تجار حروب”، في محاولة للخروج من القطاع عبر معبر رفح على الحدود المصرية.
ومع دخول الحرب شهرها الرابع تستمر معاناة الفلسطينيين الذين نزحوا تاركين بيوتهم وتكدسوا جنوبا، خاصة بمدينة رفح على الحدود المصرية، وسط ضربات إسرائيلية تطال أيضا مناطق في جنوب القطاع.
وتتوقف محاولات النزوح عند الحدود المصرية حيث لا يخرج من معبر رفح سوى أعداد قليلة، مقارنة بنحو 2.1 مليون فلسطيني بات أغلبهم في مناطق قرب الحدود. وتتهم مصر إسرائيل بالعمل على تهجير السكان إلى صحراء سيناء “لتصفية القضية الفلسطينية”، وهو ما تعتبره القاهرة “خطا أحمر”.
وكانت مقترحات من مسؤولين إسرائيليين قد لاقت انتقادات دولية وإقليمية قوية، حيث طالبت بتشجيع سكان غزة على الهجرة، وعودة المستوطنات الإسرائيلية إلى القطاع.
وجاءت التصريحات على لسان وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير. وطالما أكدت الحكومة الإسرائيلية أن الوزيرين لا يعبران عن وجهة النظر الرسمية في البلاد بشأن هذه المسألة.
وفي ظل التشديد المصري على منع التهجير، يواجه الغزيون واقعا صعبًا، حيث تحدث البعض عن تعرضهم لـ”الاستغلال” في إطار سعيهم لوضع أسمائهم أو أسماء أقاربهم على قائمة الأشخاص المسموح لهم بمغادرة القطاع عبر معبر رفح الحدودي مع مصر.
“روتين يومي صارم” تتبعه عائلات غزة للنجاة
يجلس أفراد عائلة أبو جراد في زاوية بجنوبي غزة متشبثين بروتين صارم ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.
وتحدث موقع “الحرة” مع امرأتين، إحداهما تسكن في الولايات المتحدة والأخرى في مصر طلبا عدم الكشف عن هويتهما نظرا لحساسية القضية، ولأنهما لاتزالان تحاولان إخراج أفراد آخرين من عائلتيهما من القطاع.
وأكدت الاثنتان أن سكان القطاع الراغبين في الخروج، أصبحوا صيدا سهلا لمتاجرين بالحرب، يطلبون آلاف الدولارات من أجل إدراج أسمائهم على قوائم المغادرين من غزة بواسطة المعبر.
وأشارتا إلى أن من يطلق عليهم لقب “منسقين”، “يطلبون مبلغا يتراوح بين 5 و8 آلاف دولار للفرد”، موضحتين أنه في بعض الحالات يزيد هذا المبلغ، وقد لا يتمكن الشخص من العبور، حتى لو كان اسمه على القائمة.
ولا يفرق هؤلاء “المتاجرون” بين طفل رضيع عمره عام ومصاب، بل يتم استغلالهم بشكل أكبر من الأشخاص العاديين الذين يمكنهم الصبر لفترة أطول، بحسب ما ذكرته المرأتان خلال حديثهما عن تجاربهما أو تجارب أقاربهما أو معارف لهما خرجوا أو لا يزالون داخل غزة.
نفي مصري
ونفت القاهرة، على لسان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان، “مزاعم التحصيل الرسمي لأية رسوم إضافية على القادمين من غزة، وكذلك ادعاءات تقاضي أي جهة غير رسمية لأي مقابل مادي نظير العبور إلى الأراضي المصرية”.
وقال رشوان، في بيان، إن “بعض وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، قد تداولت في الأيام الأخيرة ادعاءات كاذبة تتعلق بما يتم تحصيله من رسوم على المسافرين عبر منفذ رفح من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية، معتمدة على مصادر مجهلة وفردية ودون أي توثيق لها”.
ونفى رشوان، في البيان بـ”صورة قاطعة، مزاعم التحصيل الرسمي لأية رسوم إضافية على القادمين من غزة، وكذلك ادعاءات تقاضي أي جهة غير رسمية لأي مقابل مادي نظير العبور إلى الأراضي المصرية”.
وأوضح البيان أن “ما يتم تحصيله من الجهات الرسمية هو فقط الرسوم المقررة طبقا للقوانين المصرية المنظمة لعمل المعبر من قبل هيئة الموانئ البرية، وهي ثابتة ولم تطرأ عليها أية زيادة مطلقا”.
وناشد البيان الفلسطينيين “في حال تعرضهم للابتزاز أو الضغط في معبر رفح، من أي متربح بقضيتهم الإخطار الفوري للجهات الأمنية المصرية المتواجدة في المعبر، لاتخاذ الإجراءات القانونية الحاسمة والفورية تجاه هذه الوقائع والقائمين عليها”.
تفعيل “وضع النجاة”
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 80 بالمئة من سكان القطاع نزحوا داخليا، فيما تضررت 60 بالمئة من المباني.
وتقول السلطات الصحية في غزة إن العمليات العسكرية الإسرائيلية أدت إلى مقتل أكثر من 23 ألف شخص، وأجبر أغلب السكان على ترك من منازلهم، وحوّل مناطق كبيرة من القطاع إلى أنقاض.
في المقابل، تقول إسرائيل إن عملياتها تأتي للقضاء على حركة حماس المدرجة على قوائم الإرهاب في أميركا وعدد من الدول، بعد هجوم السابع من أكتوبر الذي أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين وبينهم نساء وأطفال، واحتجاز نحو 240 رهينة.
“معاناة الناس هائلة”.. طوابير ورحلات نزوح خطيرة في غزة أملا في وجبة طعام
مع مرور أكثر من ثلاثة أشهر على حرب في غزة بين الجيش الإسرائيلي ومسلحي حركة حماس فإن الأوضاع الإنسانية في القطاع الفلسطيني تتفاقم، لاسيما مع الشح كبير في الإمدادات الغذائية والمياه الصالحة للشرب، وفقا لتقرير نشرته شبكة “سكاي نيوز” البريطانية.
وقالت السيدة الفلسطينية، المقيمة في الولايات المتحدة، أنها تعاملت مع أشخاص بشكل شخصي، “طلبوا منهم 15 ألف دولار للشخص” من أجل إدراج اسم على قوائم المغادرين للمعبر.
وأضافت أن “أقارب لها في مصر يتفاوضون مع أشخاص على دفع مبلغ ما بين 5 إلى 8 آلاف دولار”، مشيرة إلى أنه في بعض الأحيان لا يمكن إدراج عائلة كاملة، فيتم تقسيم أفرادها وإخراجهم على مراحل.
وبحسب الشهادات، يتم إدراج الأسماء على قوائم المغادرين من معبر رفح قبل فحص تلك القوائم من جهات أمنية مصرية مختلفة.
وكان البرلماني المصري السابق الباحث، سمير غطاس، قد أثار جدلا في ديسمبر الماضي، حينما تحدث عما وصفه بـ”تحكم” الجانب الإسرائيلي في تحديد إمكانية عودة المصريين المقيمين في غزة، إلى بلادهم، وذلك بفحص جوازات سفرهم التي تصلهم من الجانب المصري.
لكن وزارة الخارجية المصرية، نفت ذلك سريعا، وقالت إن مكتب التمثيل المصري لدى السلطة الفلسطينية في رام الله والقطاع القنصلي بوزارة الخارجية، يتلقيان “الأسماء والوثائق الخاصة بالمواطنين الراغبين في العودة إلى أرض الوطن، حيث يتم إعداد كشوف تفصيلية بها لموافاة السلطات المصرية المعنية بها، تمهيداً لتسليمها للقائمين على معبر رفح الحدودي من الجانبين المصري والفلسطيني، لتسهيل عملية عبورهم من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية”.
لكن وفق الشهادات التي وصلت “الحرة”، فإن هناك عائلات نجحت بالفعل في إخراج بعض أفرادها من القطاع، بينما بقي أقارب لهم من حملة الجنسية المصرية عالقين، نظرا لعدم حصولهم على الموافقة اللازمة للخروج.
وفي ظل الموت المنتشر في غزة والحرب المدمرة، أصبح الأفراد في وضع “محاولة البقاء على قيد الحياة”، وفق المرأة المقيمة في مصر والتي تحدثت لموقع الحرة، لافتة إلى أن ذلك دفع أفراد العائلة الواحدة للتخلي عن بعضهم البعض في محاولة للنجاة.
وقالت: “أعرف مجموعة أقارب يعيشون في غرفة واحدة، استيقظ بعضهم ليجد عددا منهم اختفى دون أي سبب يذكر، ليكتشفوا لاحقا أنهم وجدوا طريقا للخروج بدفع أموال لوسطاء”.
اعتبر محللون مصريون، تحدث إليهم موقع الحرة، أن “كل ما يثار عن القضية عبارة عن ادعاءات”. وقال الإعلامي محمد مرعي مدير المرصد المصري لموقعنا إن “مصر ليست طرفا بالادعاءات الكاذبة ولا علاقة بها على الإطلاق”، وإن “التحقق منها يجب أن يكون بعيدا عن مصر”.
وأضاف أن “خروج مزدوجي الجنسية الفلسطينيين يتم بالتنسيق مع الدول التابعين لها سواء أميركا أو فرنسا و غيرها، وهناك دور للجانب الإسرائيلي من أجل فتح ممرات آمنة لحين وصولهم إلى المعبر”.
وعاد مرعي ليشدد بعد سؤاله عن شهادات المرأتين وتقرير سابق نشرته صحيفة “الغارديان” على أن “الادعاءات ليس الهدف منها سوى تشويه الدور المصري في القضية الفلسطينية وتسويق أخبار باطلة بأن السماسرة لهم صلات بالمخابرات المصرية”.
تجار الحرب
وأوضحت السيدتان الفلسطينيتان، لموقع “الحرة”، أنه في ظل فقدان المواطنين لمنازلهم وأموالهم وأفراد من أسرهم، يجدون أنفسهم أمام وضع يضطرون فيه إلى دفع كل ما يملكون من أجل الخروج فقط من القطاع، علما أنهم لن يمتلكوا ما يساعدهم على العيش في مصر أو غيرها من الدول.
وقالت إحداهما: “الناس فقدت بيوتها ومحلاتها وكل حياتها، ما يحدث حرام. لي أقارب في غرب مدينة غزة حيث كان التجار وأصحاب المحال يعيشون حياة كريمة، خاصة أن المنطقة كانت بمثابة العاصمة، لكن كل المحال هدمت، ونزح الأهالي إلى الجنوب، وباتوا يدفعون كل شيء من أجل الخروج فقط”.
وتابعت: “منزلنا احترق ومنزل أختي تضرر بالقذائف، وزوجها موظف بنك براتب جيد، يسعى حاليا لدفع كل ما يملك، وهو ما يعادل من 7 إلى 10 آلاف دولار للفرد، كي يخرج مع زوجته وابنه”.
وأضافت: “الطفل عمره عام وتتم معاملته كشخص بالغ”، في إشارة إلى دفع الأموال لوسطاء مقابل إدراج الاسم على قائمة الخروج.
كيف دفعت إسرائيل أكثر من مليون فلسطيني إلى منطقة واحدة بغزة؟
يواجه سكان غزة خيارات صعبة، حيث كانوا يعيشون في قطاع مكتظ قبل الحرب، والآن تسببت المعارك في دفع نحو نصفهم بالاتجاه جنوبا.
يذكر أن السيدتين اللتين تواصل معهما موقع الحرة لم ترغبا في الكشف عن أسمائهما لأسباب أمنية، حيث لهم أسر في القطاع يحاولون الخروج حتى الآن.
وقالت واحدة منهما، إن هناك عائلة تعرفها في شمال غزة كانت قد لجأت لكنيسة العائلة المقدسة، الكاثوليكية الوحيدة في غزة، التي شهدت مقتل سيدتين في ديسمبر “برصاص قناص إسرائيلي”.
وحينها أصدرت البطريركية اللاتينية في القدس، بيانا جاء فيه: “ظهيرة يوم 16 ديسمبر 2023، اغتال قنّاص من الجيش الإسرائيلي سيّدتين مسيحيتين داخل رعية العائلة المقدسة في غزة حيث لجأت غالبية العائلات المسيحية منذ بداية الحرب” بين إسرائيل وحركة حماس.
ونقلت وكالة أنباء الفاتيكان عن الكاردينال، بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس اللاتيني، أن الضحيتين “امرأة مسنة” وابنتها.
وأشارت المرأة إلى أن العائلة التي لجأت للكنيسة، حتى في ظل امتلاكها للمال، لا يمكنه لأفرادها الوصول إلى الجنوب، خوفا على حياتهم من القوات الإسرائيلية.
شبكة معقدة وعمليات خداع
ويحتاج الشخص في قطاع غزة إلى دفع الأموال لوسيط يمكن أن يكون تعرف عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط، وتكون تلك الأموال بالدولار، وتمر الأموال عبر عدة أشخاص يمكن ألا يعرفهم الفلسطيني الذي يحاول الخروج من غزة.
وقالت السيدة الفلسطينية، المقيمة في الولايات المتحدة، إنه في بعض الأحيان يتم إنشاء صفحات على مواقع مثل “غو فاند مي” لنقل الأموال، وبما أنه من الصعب تأسيسه في مصر، يتولى ذلك شخص من خارجها، ليقوم بتأسيس الصفحة وإيداع الأموال لتصل إلى شخص في مصر، يتواصل مع الوسيط ويدفع له الأموال.
لكن مشكلة أخرى تظهر هنا، هي أن الأموال التي يطلبها الوسطاء تكون بالدولار، وهو أمر بالغ الصعوبة في ظل القيود المشددة التي تفرضها مصر على “العملة الصعبة”.
من جانبها، أكدت الشاهدة الثانية، المقيمة في مصر، أن الوسطاء يرفضون حتى تزويد الراغبين في الخروج بصورة لهويتهم الشخصية أو معلومات عنهم، لكن يقرر البعض المغامرة أملا في الخروج، واعتمادا على أن الوسيط أخرج أشخاصا من قبل.
وواصلت: “المال يحتاج للتنقل بين أياد كثيرة ولا يمكن الثقة في الكثيرين، وأحيانا لا يوجد من يمكنهم المساعدة.. هناك مجموعات كثيرة على واتساب يحاول مئات المشاركين فيها مساعدة ودعم بعضهم البعض”.
ضغوط كبيرة على مصر وسط احتشاد الغزيين قرب حدودها
منذ بداية الحرب الجديدة بين إسرائيل وحماس، أبدت مصر رفضها استقبال نازحين فلسطينيين على أراضيها، لكن تقريرا لصحيفة “واشنطن بوست” يرى أن القاهرة قد تضطر للتراجع عن موقفها “مع استمرار إسرائيل في هجومها على جنوب غزة”.
وأشارت إلى أنه أحيانا يدفع بعض الأشخاص “عربونا” تصل قيمته إلى 300 دولار للفرد، يطلبه المنسق كدليل على جديتهم في إتمام العملية، واعدا إياهم بإدراج أسمائهم على قوائم المغادرين، ثم يختفي تماما.
كيف تتم عملية الدفع؟
ولدى سؤالها عن الطريقة التي تتم بها عملية الدفع لأولئك “المنسقين”، أوضحت السيدة الفلسطينية التي تعيش في مصر: “يتم التواصل مع أحد هؤلاء في مصر، الذي يقوم بدوره بمنحنا رقم شخص في غزة يتلقى الأموال من الراغبين بالخروج”، لافتة إلى أنها لا تعلم طبيعة العملية التي تجري بين الاثنين (المتواجد في مصر والآخر في غزة).
كما لفتت إلى وجود “طريقة أخرى” لتسيلم الأموال لهؤلاء الوسطاء، وهي الاتفاق على موقع لقاء في العريش، حيث يحضر الوسيط ويستلم الأموال باليد”.
وعما إذا كان تسليم الأموال يتم قبل أو بعد وضع الأسماء على قائمة المغادرين، أوضحت أن الأمر يختلف من وسيط لآخر، مشيرة إلى أن بعضهم يطلبون “عربون”.
وإلى جانب دفع الأموال مقابل الخروج، ذكرت السيدة بضعة أمثلة لأشخاص خرجوا مجانا لعلاقاتهم مع مسؤولين كبار في مصر يساعدونهم في هذا الصدد.
مشاكل لا تنتهي
وخلال حديثها لموقع الحرة، أوضحت إحدى السيدتين أنه بعد تخطي كل تلك العقبات وإدراج أسماء الأشخاص بالفعل على قوائم المغادرة، تشكل صعوبة التواصل عائقا آخر أمام إعلام الشخص أنه أصبح مخولا بالخروج من القطاع.
ويحاول الفلسطينيون في غزة التغلب على ذلك، بنشر قوائم الأسماء على مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر مجموعات خاصة على تطبيق “واتساب” وغيره، ليعلم الحاضر الغائب.
وفي هذا الصدد، نوهت المتحدثة بأنه نظرا لأن أهالي غزة يعرفون بعضهم البعض، فهم يعلمون بمجرد رؤية القوائم من خرج لأنه دفع ومن خرج لأنه يحمل جنسية أخرى، وأولئك الين يخرجون بسبب السن أو صعوبة حالتهم، في إشارة إلى أن ذلك دليل على حدوث عمليات رشى.
وعن حالة بعينها، قالت فلسطينية تواصل معها موقع الحرة: “صديقتي رياضية، لكن ساقها بترت وهي في غيبوبة، أليست أولى بالخروج حتى لو كان ذلك بدفع أموال؟.. يتم استغلال المرضى بصورة أكبر بسبب ظروفهم”.